نريد أولا معايير لاختيار واضع المعايير.. كان ذلك أدق تعبير ساخر سمعته عبر التليفون من الأستاذ الكبير سلامة أحمد سلامة قبل رحيله بأيام, بعد حكم القضاء بتثبيت حق مجلس الشوري في وضع معايير اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية. وهي المعايير السهلة, التي ستقود فعليا لإطلاق يد حزب الأغلبية في الاختيار من بين مئات الصحفيين الذين تتوافر فيهم مواصفات رئيس التحرير, ويصبح المنصب البراق, أداة مرة أخري لاصطياد الصحافة القومية لتبقي في يد جماعة الحزب الحاكم الآن التي تملك الاختيار,كما كانت قبل ثورة 25 يناير أسيرة في يد لجنة السياسات. صحيح أن الجماعة الصحفية بشر لهم تاريخ, ويتعلمون ويقرأون كل يوم أن الإنسان لا يشرب من النهر مرتين, ولا يلدغ من جحر السلطان أكثر من مئة مرة, وهم في ذلك لاينطبق عليهم قانون فئران أحمد بهاء الدين, الذين ذكرهم في كتابه أيام لها تاريخ, والتي لم تتعلم أبدا من دروس الماضي, وعاشت أجيالها تكرر الغلطة نفسها, تدخل المصيدة وتتلفت حولها إمعانا في اليقظة والحرص, ويسيل لعابها فتندفع لتخطف قطعة الجبن المعلقة بالسنارة, فينغلق عليها باب المصيدة, يحدث هذا للفئران كل يوم منذ آلاف السنين. ومايحدث هذه الأيام للجماعة الصحفية من إغراءات واستقطابات, حدث من قبل عام 1900 في واقعة سجلها د. يونان لبيب رزق نقلا عن مقال لداود بركات في الأهرام حين اجتمع الصحفيون في فندق' الكونتننتال', لتأليف نقابة لهم, بدعوة من بشارة تقلا مؤسس الأهرام, فأبلغهم مراسل الإجيبشيان جازيت أن اللورد كرومر لا ينظر بعين الرضا إلي مشروعهم, لأنه يكره النقابات, وكان هذا البلاغ كافيا لأن يشطر الجماعة الصحفية شطرين, شطر يصر علي تأليف النقابة, وشطر نذر نفسه للدفاع عن وجهة نظر اللورد كرومر,ويجاهربالعداء للنقابات, ولفكرة تأليفها وتفاهة من ينادون بها, ومرت سنوات, تعطل فيها المشروع بسبب هذا الانقسام الذي نجح في زرعه المحتل.. واجتمع الصحفيون مرة أخري في محاولة لتوحيد شتاتهم, والبحث في تعريف الصحفي.. فقال أحد أصحاب الجرائد: إني لا أعترف بهذه الصفة للمحرر والكاتب, لأنه قد يكون اليوم محررا فيصبح غدا بائع فجل, وكان يريد أن يقصر صفة الصحفي علي من يتفرغ للمهنة, ويتكسب منها دون سواها.. وهاج الصحفيون الكتاب بعد سماعهم هذا القول, وانشقوا عن أصحاب الجرائد, واتفقوا علي أن يؤلفوا نقابة باسم نقابة الكتاب, فلقوا إقبالا كبيرا حتي صارت الأغلبية فيها للمحامين, الأمر الذي سهل مهمة ساكن قصر عابدين في إفشال الفكرة والقضاء عليها.. وضاعت أكثر من عشرين سنة أخري في الانقسام قبل إنشاء نقابة الصحفيين. الآن.. السلطة لرئيس منتخب من الشعب,لا يوجد مندوب سام ولا سلطان أو ملك, لكن الغريب أن المصيدة كما هي.. والإغراء لم يعد قطعة جبن, ولا شريحة طماطم, ولا صرة دراهم.., بل عامرة هذه المرة بمنصب رئيس التحرير.. والفرصة متاحة أمام أي محرر كما هي متاحة لبائع الفجل مع الاعتذار لداود بركات إذا توافرت الشروط والمعايير, وكما تعطل إقامة النقابة وتعريف الصحفي قبل أكثر من 100 سنة لانقسام الصحفيين, تضيع الفرصة الآن في صحافة وطنية حرة, يحدد فيها لمن ينتمي الصحفي؟ وتلغي احتمالية حبسه في قضايا النشر, بل تزيد فرص خلق بؤر من التوتر داخل المؤسسات حول كل رئيس تحريرمحتمل, ويتزايد الانقسام في الصحف القومية إلي فسطاطين.. فسطاط يريد الاستقلال أولا,ويتمسك بتعديل قانون ملكية الصحافة وتحديد علاقتها بالسلطة الحاكمة في الدستور الجديد, وفسطاط لا يتعلم من الماضي, ويسيل لعابه لقضم المنصب الكبير حتي وإن كان أهلا له تحت وهم تكافؤ الفرص, متسلحا بمعايير فصلها علي مقاسه جماعة في مجلس شوري بلا معايير! المزيد من مقالات أنور عبد اللطيف