قبل48 ساعة تقريبا من وقوع كارثة عمارة المنشية بالإسكندرية كان محافظ المدينة قد تقدم باستقالته اعتراضا علي عدم تعاون الأجهزة الأمنية معه. وعندما وقعت كارثة تلك العمارة كان المواطنون يصرخون طلبا للنجدة لوجود العشرات تحت الأنقاض لا يجدون من ينقذهم, والسؤال الذي أخذ يتردد وسط صراخات وبكاء العشرات من المحتشدين أمام الحارة شديدة الضيق التي بنيت داخلها تلك العمارة المنكوبة هو: أين الحكومة؟, أين الرئيس, وأين الدولة؟ سؤال تلقائي لا يمكن التشكيك لا في نزاهته ولا في أخلاقياته لكنه يجسد واقع الأزمة التي تواجه مصر الآن هي أزمة الفراغ السياسي وامتداداتها الأمنية والمعيشية علي وجه الخصوص, فالدولة لا تريد أن تعمل, والمظاهرات والاعتصامات الفئوية التي تفجرت علي مدي الأشهر الستة التي كان مجلس الشعب موجودا فيها تتكرر الآن في وجود الرئيس, الأجهزة الأمنية لا تريد أن تعمل, والبعض يدفع باتجاه إيجاد شعور بأن الدولة تسقط, أو أن الدولة غائبة, وأن الرئيس عاجز عن أن يفعل شيئا, تماما كما كان مجلس الشعب عاجزا عن أن يفعل شيئا. هكذا ظلوا يروجون لتبرير دعوة إسقاط المجلس. سقط مجلس الشعب, وبقي أن يسقط الرئيس, إما من خلال إثبات الفشل والعجز أو بإجراءات تحمل الصفة الدستورية والقانونية علي نحو ما حدث بالنسبة لمجلس الشعب. ما حدث لمجلس الشعب كان كارثة مفتعلة ومدبرة والقرائن كثيرة ومؤكدة. فالقضاء الإداري هو الذي كان قد أحال إلي المحكمة الدستورية طلبا بالحكم في دستورية أو عدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب بناء علي شكوي من مواطن يعترض علي تمكين قانون انتخابات مجلس الشعب للأحزاب من منافسة المرشحين المستقلين علي الثلث الفردي المخصص لهم. كان الأمر إذن يتعلق بالثلث الثالث الفردي دون غيره, أي دون الثلثين الخاصين بانتخابات القوائم, لكن المحكمة الدستورية تجاوزت ما هو مطلوب منها وحكمت بحل مجلس الشعب كله دون اعتبار لأمور ثلاثة, أولها, أن ثلثي نواب المجلس المنتخبين بالقوائم محصنون دستوريا من أي طعن, لأن الإعلان الدستوري الصادر يوم30 مارس 2011 أقر بأن يكون ثلثا النواب بالقوائم الانتخابية. وثانيها, أن المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية تنص علي أن سلطة المحكمة تقتصر علي الحكم ببطلان النصوص القانونية أو تأييد صحتها ولا تمتد سلطتها لموضوع الدعاوي المتعلقة بتلك النصوص القانونية, لكن ما فعلته المحكمة الدستورية هو تجاوز منطوق الحكم بعدم دستورية بعض مواد قانون انتخابات مجلس الشعب إلي إبداء الرأي أو تأويله وتفسير الحكم وهو أن المجلس لم يعد قائما. أما الأمر الثالث فهو ما يتعلق بالمواءمة السياسية, وهو أنه كان علي المحكمة مراعاة الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد, ومدي الحاجة إلي بناء مؤسسات منتخبة بإرادة شعبية, وأنه إذا كان هناك خطأ ما كان يجب محاصرته ومعالجته. كان الأجدر بالمحكمة أن تقضي, إما بإسقاط عضوية النواب الحزبيين الذين انتخبوا ضمن الثلث الفردي, أو أن تسقط نواب الثلث الفردي جميعهم, لكن أن تسقط المجلس كله فهذا قرار تجاوز متعمد للمواءمة السياسية والظروف المصرية الحرجة. وجاءت الطامة الكبري بدخول المجلس الأعلي للقوات المسلحة طرفا في تعميق الأزمة عبر سلسلة من الإجراءات شديدة الخطورة كان أولها إصدار قرار بحل مجلس الشعب باعتبار أن المجلس العسكري يملك السلطة التنفيذية لعدم وجود رئيس للجمهورية, وثانيها, الإعلان بأن المجلس العسكري استرد سلطة التشريع بعد حل مجلس الشعب, ما كشف مدي حرص وتلهف المجلس العسكري علي استرداد هذه السلطة, وتلا ذلك خطوة ثالثة بإصدار إعلان دستوري مكمل هو في جوهره إعلان غير دستوري ومكبل نزع أي سلطة لرئيس الجمهورية علي الجيش وأعطي للمؤسسة العسكرية سلطات فوق السلطات الثلاث الدستورية وجعلها خارج نطاق المحاسبة وخارج نطاق الإرادة الشعبية, وجاء الإجراء الرابع الخاص بتشكيل مجلس للدفاع الوطني يضم إحدي عشرة شخصية عسكرية وخمسة أعضاء مدنيين ليؤكد ويتطابق مع قرار حل مجلس الشعب, وهو أن المجلس العسكري يريد أن يبقي الحاكم الوحيد لمصر حتي بعد انتخاب رئيس للجمهورية. والآن وبعد إسقاط مجلس الشعب عمدا ومع سبق الإصرار تجري عملية مماثلة ومدبرة لإسقاط رئيس الجمهورية; إما بالأمر الواقع عبر حملات التشويه الإعلامية المكثفة وعبر افتعال الأزمات الأمنية والمعيشية وما حدث بالنسبة لحادثة عمارة المنشية بالإسكندرية نموذج يمكن أن يتكرر وبكثافة, وإما عبر الترويج لفكرة ضرورة استقالة الرئيس فور الانتهاء من كتابة الدستور الجديد, وإما بتجميد سلطات الرئيس وحرمانه من ممارسة سلطاته من خلال تفعيل سيطرة المجلس السعكري علي الموازنة العامة للدولة, ومن خلال تفعيل الإعلان الدستوري المكمل, ومن خلال السعي لحل الجمعية التأسيسية للدستور, تمهيدا لتعيين جمعية بديلة تكون مستعدة لتضمين نصوص هذا الإعلان في الدستور. أمس الأول الأحد اتخذ الرئيس محمد مرسي قرارا جريئا بالتصديق علي قانون إنشاء الجمعية التأسيسية الصادر عن مجلس الشعب قبل حله, ومعني هذا أن هناك احتمالا لوقوع صدام بين محكمة القضاء الإداري والرئيس علي نحو ما حدث من صدام بين المحكمة الدستورية والرئيس في معركة كان ظاهرها عراكا حول القانون والدستور كما حاول الإعلام أن يصورها, لكن جوهرها هو إسقاط أو تجميد دور المؤسسات الشرعية المنتخبة بإرادة شعبية لمصلحة سطوة وسيطرة مؤسسات معينة, بقرارات من الرئيس المخلوع وعلي الأخص المجلس الأعلي للقوات المسلحة والمحكمة الدستورية العليا, حيث من المقرر أن تصدر محكمة القضاء الإداري اليوم حكمها إما بحل الجمعية التأسيسية أو الإبقاء عليها, ومن ثم فإن صراعا جديدا بين القضاء والرئيس أضحي ممكنا. صراع جديد من نوعه تسعي فيه مؤسسات معينة لفرض سيطرتها علي مؤسسات شعبية منتخبة في اعتداء صارخ علي الإرادة الشعبية, والنتيجة هي العجز في أداء مؤسسات الدولة لأدوارها, وبدون أن يقدم الرئيس علي قرار جريء بإلغاء الإعلان الدستوري المكمل, وهذا حقه الدستوري, ستتساقط مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخري ويصبح الفراغ السياسي سيد الموقف.. وعندها تقع الكارثة الكبري بالانقضاض علي الرئيس وإسقاط النظام لتقع مصر في مستنقع انقلابات لم تعرفها من قبل. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس