أتحدث عن نفق مظلم، يبدو أن الجمعيات والمؤسسات الأهلية قد بدأت تدخل إليه، والنفق يحتاج إلى إنارة وبعض نقاط الضوء، التى تخرج بها إلى النور، وتعيد دورها فى تقديم خدماتها للناس، وفى كل ربوع مصر. إن الاقتراب من وضعية الجمعيات والمؤسسات الأهلية فى اللحظة الحالية، وبعد صدور القانون 70 لسنة 2017 ، ينطق بواقع يحتاج إلى التعامل معه، ولا يعود الأمر كله إلى ما أطلق عليه معركة التشريع والتى احتدمت فى السنوات الماضية ، فى محاولة الوصول الى قانون تتوافق حوله الأطراف ، ولكن هناك مجموعة من الأسباب تفسر وصول الجمعيات الأهلية إلى أبواب النفق المظلم. صحيح أن القانون 70 عقد من وضعية الجمعيات ، خاصة وأنه خرج من البرلمان، وفى غيبة أى حوارات مجتمعية جادة، وعصف بمشروع قانون وزارة التضامن الاجتماعي، وهو قانون معتدل إلى حد كبير توافقت حوله الآراء، واحترم الكل اعتبارات الأمن القومي، إلا أن تهميش البرلمان للقوى المجتمعية والفئات المستهدفة بالقانون من جانب، والإطاحة بكل الجهود السابقة المتراكمة، وإصدار قانون مختلف وبعد جلسة واحدة من النقاش، قد أسهم فى تعميق أزمة عدم الثقة. هذه الأزمة التى اتسمت بها العلاقة بين الجمعيات والمنظمات الأهلية - خاصة المنظمات الحقوقية - والحكومة، امتدت إلى مجمل المنظمات الأهلية والرأى العام، وممثلى الشعب فى البرلمان، ومنظمات أجنبية ودوّل كبرى (أبرزها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي)، وذلك باعتبار القانون المذكور يخرج عن الاتجاهات العالمية للقوانين ويحد من حريات المجتمع المدني. فى السياق الصعب والمعقد، ارتبكت منظومة القيم وتصاعدت قضايا اجتماعية واقتصادية وقيم سلبية، تفاعلت مع وضعية الجمعيات الأهلية، وهى محصلة البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو أمر طبيعى للغاية، فهى ليست كائنا هبط علينا من الفضاء. لقد شهدت هذه الفترة 2011-2017، تراجعا تدريجيا فيما نطلق عليه القدرة الاستجابية للجمعيات والمؤسسات الأهلية، أى قدرتها على التجاوب مع المطالَب والضغوط الاجتماعية المتزايدة، ويشمل ذلك الخدمات الصحية وقضايا السكان، ويشمل أيضا التعليم وجهود التثقيف والتنوير. ويمتد إلى العمل الحقيقى لصالح تمكين المرأة، وحماية الأطفال وذوى الاحتياجات الخاصة ، وقدرات التعامل مع العنف فى الأسرة وحماية الأسرة من التفكك. الأكثر من ذلك ان مكافحة الفقر، والتصاعد الشديد فى كل أسعار السلع والخدمات، وجشع قطاع من التجار. هذه وغيرها لم تصاحبها جهود فعالة لحماية المستهلكين، ولا اقترابات جديدة لتمكين الفقراء، ويشهد على ذلك أن الغالبية العظمى من الجمعيات التى تم تسجيلها فى السنوات الست الماضية، كانت جمعيات خيرية تعتمد على علاقة مباشرة بين مانح ومتلق، وغالبيتها فى صعيد مصر الأكثر فقرا، ولها سمة دينية تحرك التبرع ومشاعر العطاء الديني. إذن هيكل الجمعيات والمؤسسات الأهلية لم تتغير ملامحه بعد يناير 2011، بل على العكس تعمقت سماته السلبية، وأهمها: غلبة العمل الخيري، التوزيع الجغرافى غير العادل للجمعيات ، محدودية الابتكار والإبداع للتجاوب مع احتياجات الناس. ونحن نتحدث عن الخوف من دخول النفق المظلم، قد يكون من المفيد الإشارة الى تراجع عدد الجمعيات الأهلية المسجلة حديثا فى مصر، ونعتمد فيها على البيانات الرسمية للحكومة، وهى تحمل رسالة واضحة للجميع، هى تراجع المشاركة المجتمعية. فى عام 2017 سجلت الإحصاءات الرسمية تسجيل 50 جمعية فقط فى الشهور الستة الأولى ، وقد تصل الى 100 مع نهاية العام. بينما فى عام 2016 تم تسجيل 138، فى 2015 تم تسجيل 311 جمعية جديدة ، وفى عام 2014 كان عدد الجمعيات الجديدة 919 جمعية. وفى السنوات الثلاث بعد ثورة يناير تم تسجيل 8146 جمعية وهو ما مثل طفرة لها مبرراتها فى هذا السياق خاصة إذا علمنا أن أكثر من نصفها كانت تابعة لجماعة الإخوان والسلفيين. الملاحظة العامة إذن هى الاتجاه التنازلى فى عدد الجمعيات الجديدة المسجلة فى السنوات الأخيرة، ما يكشف عن العزوف عن المشاركة الاجتماعية. وقد عمق من هذا الاتجاه - لا شك - الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التى أثرت على العطاء المجتمعى سلبيا ، وكذلك تراجع التمويل الأجنبي. إلى جانب الشك وعدم اليقين فى المستقبل والتخوفات السائدة من تجريم الفعل التطوعى وسريان الإحباط. يستلزم ذلك وبسرعة وجدية التحرك لإنعاش هذا القطاع التطوعي، وفى اعتقادى مهم التوقف عن التغنى بأن اجمالى عدد الجمعيات فى مصر، أكثر من 48 ألف جمعية، الأهم هنا الفعالية والنشاط، وليس الأرقام ، خاصة إذا علمنا أن قاعدة بيانات وزارة التضامن الاجتماعى تشير إلى أن 18000 جمعية غير عاملة وغير نشطة ولم يمكن الاستدلال على عناوينها أو مقراتها ولا يتوافر عنها، أى تقارير. إذن حين يكون فى مصر جمعيات وهمية بهذا العدد، يعنى إننا إزاء مشكلة وقد تطول الأمن القومى ، ويعنى غياب قدرة الجهة الإدارية المعنية على المراقبة والمتابعة. نحن أمام مشهد قاتم لابد من إدراكه والاعتراف به، ثم مواجهته لضخ الدم إلى هذا القطاع، وقد تكون نقطة البداية أمرين. أولهما توسيع مشاركة الجمعيات والمؤسسات الأهلية فى عملية صنع السياسات الاجتماعية والاقتصادية وتوظيف الخبرات المتراكمة لديهم فى التعامل مع القواعد الشعبية، فى الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والبيئة وتمكين الفئات المهمشة. ثانيهما التوسع فى الشراكات بين الحكومة والقطاع الأهلى والقطاع الخاص، بحيث تستند هذه الشراكات على معايير واضحة ومعلنة وشفافة وتتوزع المسؤوليات بين الأطراف، بحيث يتم توظيف المزايا النسبية لكل طرف ويتم احترام قواعد المساءلة والمحاسبة. من المهم إعادة ترتيب الأولويات والقضايا ذات الأولوية، ويكون الدعوة لعقد مؤتمر قومى للجمعيات والمؤسسات الأهلية، فرصة جيدة للم الشمل وتبادل الحوار بين مختلف الأطراف. مهم تحريك المياه الراكدة ودعم وتشجيع الجمعيات للعمل معا والتعاون واتخاذ مختلف الإجراءات الميسرة والمحفزة للمبادرات الطوعية، وإلا دخل الجميع فى النفق المظلم. لمزيد من مقالات د. امانى قنديل;