لست أعرف من الذى أطلق مقولة أن أحكام القضاء مقدسة، بما لايسمح بالتعليق عليها؟ ولست أعرف كيف قبلنا تلك المقولة التى لا سند لها فى القانون، فرضينا بها وانصعنا لها؟ فإذا كانت كلمة القضاة هى المقدسة فماذا تَرَكُوا لكلمة الله؟! إن القضاة بشر يخطئون ويصيبون كسائر البشر، لذلك وجدنا أحكاما يثبت خطؤها وتتراجع عنها المحكمة فى الدرجة التالية من التقاضي، وهذا يعنى أن أحكام القضاء ليست مقدسة، ولا يوجد عندنا أو عند غيرنا قانون يمنع التعليق على أحكام القضاء، بل إن جميع النظم القضائية، عندنا وعند غيرنا، تسمح بمراجعة أحكام القضاء، واستئنافها، ونقضها أيضا، فمن الذى خلع عليها إذن تلك القدسية المزعومة؟! لقد شاهدت بنفسى فى قضية الروائى الشاب أحمد ناجى كيف تغير الحكم وتبدل ما بين قاض وآخر، فقد استدعيت للشهادة فى القضية، أنا والدكتور جابر عصفور والروائى صنع الله إبراهيم، وبعد أن استمعت المحكمة لشهاداتنا أصدرت حكمها ببراءة المتهم، ثم فى الاستئناف حكم قاض آخر بالسجن على أحمد ناجي، أما فى النقض فقد وجد قاض ثالث ما يستوجب رفض المحاكمة برمتها، وإعادة مثول الكاتب الشاب أمام محكمة أخري، فلا كان حكم الدرجة الأولى مقدسا ولا الحكم المستأنَف. أقول هذا بمناسبة ذلك الحكم المفاجيء الذى أصدرته إحدى المحاكم الجزئية بمنطقة شرق الإسكندرية بحبس الدكتور اسماعيل سراج الدين، المدير السابق لمكتبة الإسكندرية، ثلاث سنوات ونصف، فى مخالفات للوائح البيروقراطية الحكومية المصرية البالية التى لا يصح أن تخضع لها مكتبة الأسكندرية، مثل تأجير كافيتريا المكتبة دون عمل مزايدة وتلقى عطاءات كما يحدث فى دواوين الحكومة، ومثل شراء سيارات للمكتبة يصل سعر بعضها الى مليون جنيه مصري، وهو سعر يقل كثيرا عن أسعار السيارات الفاخرة مثل الرولس رويس والبنتلى والجاجوار والفيراري، والتى يصل ثمن الواحدة منها الى عدة أضعاف هذا المبلغ، ومثل تعيين مستشارين لا يحتاجهم العمل بالمكتبة، ولست أعرف كيف يتسنى لغير إدارة المكتبة أن تعرف احتياجات العمل والتى يراجعها مجلس الإدارة ويعتمد أو يرفض قراراتها؟ ومثل السفر على نفقة المكتبة فى رحلات شخصية، ولست أعرف كيف يتسنى أيضا لغير إدارة المكتبة تحديد طبيعة أى سفرية، وما إذا كان المدير قد اجتمع خلالها بمن تربطهم علاقات تعاون مع المكتبة أم أنه أمضى وقته فى التزحلق على الجليد فوق جبال الألب؟! ان الشخص الذى نتحدث عنه ليس ممن ينتظرون راتبهم الوظيفى حتى يسافروا الى الخارج أو يركبونا سيارة محترمة، فمن المعروف أن الدكتور اسماعيل سراج الدين ظل لسنوات طويلة يعمل فى الخارج حتى وصل الى أعلى درجات السلم الوظيفى فى منصبه الدولى كنائب لرئيس البنك الدولى بما سمح له أن يعيش فى أفضل مستوى معيشى فى الولاياتالمتحدة، وأن يرسل أبناءه الى أفضل الجامعات هناك، وانا أتحدث هنا عما حققه بجهده الشخصى واعتمادا على قدراته الفردية وليس اعتمادا على خلفيته العائلية، فهل ترك كل ذلك لكى يأتى الى مصر بغرض اهدار مال واحدة من أهم مؤسسات مصر الدولية فى نفقات هو قادر على تحملها دون السطو على أموال المكتبة؟! إننى أشرف بعضوية مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية الذى يضم ملوكا ورؤساء جمهوريات ووزراء وبعض الشخصيات الدولية المرموقة، وأعرف أن سجلات المكتبة تشير الى تبرع أحاد الناس، ويدعى اسماعيل سراج الدين، بما يقارب 3 ملايين جنيه، لهذه المؤسسة التى رفعت اسم مصر عاليا فى المحافل الثقافية الدولية، وقد شاهدت بنفسى فى متحف المكتبة بعض نوادر السجاد العجمى القديم والتى وهبها اسماعيل سراج الدين للمتحف من المجموعة الشهيرة لجده المرحوم الدكتور على إبراهيم صاحب واحدة من أكبر المجموعات المتحفية للسجاد فى العالم، كما تبرع أيضا بمكتبة والدته أستاذة الفن الإسلامى المعروفة، والتى كانت تضم كتبا نادرة توارثتها العائلة جيلا بعد جيل الى أن استقرت الآن فى المكتبة. لقد استطاع الدكتور اسماعيل سراج الدين بعلمه وبثقافته الموسوعية أن يحقق لنفسه مكانة دولية مرموقة حتى إنه حين رشحته بوركينا فاسو ( وليس مصر! ) لرئاسة اليونسكو صدر بيان من 200 من كبار الشخصيات الدولية بتأييده كان من بينهم 30 شخصية من الفائزين بجائزة نوبل فى مختلف المجالات، كذلك شاهدت بنفسى أثناء الاجتماع الأخير للرئيس عبد الفتاح السيسى بمجلس أمناء المكتبة، كيف أثنى أعضاء المجلس بلا استثناء على المدير المؤسس للمكتبة وجهده المتواصل طوال ال15 عاما الأخيرة، وقد أكد لهم الرئيس أن مصر لا تفرط فى رجالها وأنه سيتم الاستفادة من علم وخبرة الدكتور سراج (كما نطق اسمه)، وبالفعل لم تمض أيام حتى كان الرئيس قد أصدر قراره بعضوية الدكتور اسماعيل سراج الدين بالمجلس القومى لمكافحة الإرهاب ضمن لفيف من كبار الشخصيات المصرية، كما اتخذنا قرارا بمجلس الأمناء بإنشاء مركز للأبحاث والدراسات داخل المكتبة يرأسه الدكتور اسماعيل سراج الدين، لكنى تلقيت منذ أيام مكالمة غاضبة من إحدى الشخصيات الأكاديمية الدولية، وهو رجل آثار فرنسى محب لمصر وتاريخها، يستفسر فيها إن كان صحيحا ما نشر فى الصحافة الأجنبية من أن مصر سجنت الدكتور سراج الدين بعد أن أنهى فترة عمله بالمكتبة، وأوضحت لمحدثى أن الدكتور سراج الدين لم يسجن وان ما صدر بحقه ما هو إلا حكم ابتدائى قابل للاستئناف، فقال لى إنه وغيره من الشخصيات الدولية التى تحدث اليها على استعداد للمثول أمام المحكمة لتبصيرها بالقيمة الدولية للدكتور اسماعيل سراج الدين وبما ساهم به تفى رفع اسم مصر عاليا أمام العالم من خلال هذا المشروع الحضارى العملاق الذى تفخر به مصر، ثم قال لى بالحرف الواحد: إن مصر ليست بلد التخلف والاٍرهاب واهدار حقوق الإنسان التى يصورها أعداؤها. انها بلد الحضارة والثقافة والفن والتنوير. هى بلد نجيب محفوظ وأحمد زويل ويوسف شاهين واسماعيل سراج الدين. هى بلد النيل والأهرامات ومكتبة الإسكندرية، فساعدونا فى الحفاظ عليها ولا تمنحوا أعداءها معاول مجانية لهدمها... فسكتُ ولم أجب عليه بكلمة. تت لمزيد من مقالات محمد سلماوى