هل يفضى إتفاق باريس الأخير، الذى أعلن فى 25 يوليو، إلى تحريك عملية السلام فى ليبيا وإنهاء الإقتتال الدائر منذ أكثر من ست سنوات؟ أهم ما تمخض عن الإجتماع الذى جمع رئيس المجلس الرئاسى فائز السراج والمشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطنى الليبى، برعاية الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، هو الإتفاق على وقف إطلاق النار، باستثاء ما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وإجراء إنتخابات تشريعية ورئاسية فى ربيع 2018. لاشك أن "إعلان باريس" هو خطوة إيجابية مثله مثل عديد من المبادرات التى سبقته والتى كانت تصطدم دوما بعقبة التنفيذ. وكانت صعوبة، إن لم تكن إستحالة التنفيذ، تنبع دائما من تعدد الأطراف الفاعلة على الساحة الليبية التى تتنافر فى أغلب الأحيان مواقفها ومصالحها الذاتية والسياسية والإقتصادية. وكثيرا ما غذت التدخلات الخارجية، الإقليمية والدولية، من تباعد تلك المواقف وساهمت فى تشدد بعض الأطراف الداخلية ورفضها تقديم أى تنازلات. وهو الأمر الذى جعل بعضها يفضل الحل العسكرى على ما عداه من تسويات سياسية تتطلب بالضرورة التوصل لحلول وسط. فهل تنجح تفاهمات باريس فيما فشلت فيه المبادرات السياسية السابقة؟ التحدى الأول الذى يفرض نفسه يتمثل فى إقناع الأطراف الرئيسية الأخرى، كشيوخ القبائل وبعض القوى السياسية والميليشيات الفاعلة، بضرورة العمل بالإتفاق. وتلك مهمة شاقة من المفترض أن يضطلع بها مبعوث الأممالمتحدة الجديد لليبيا، غسان سلامة، الذى شارك فى إجتماعات باريس ووجه فى أعقابها رسالة إلى الأطراف الليبية جاء فيها، ضمن ما جاء، أنه "إذا شئتم إبقاء الأمور على ماهى عليه فلستم بحاجة لى". وهى رسالة واضحة تفيد بتعقد المشهد الليبى وبضرورة إدراك تلك الأطراف لأهمية إتخاذ قرارات شجاعة وصعبة حتى يمكن تحريك الأمور للأمام. وقد صدرت حتى الأن بعض ردود الفعل غير المشجعة من بعض الأطراف الهامة التى رفضت ما تم إعلانه فى باريس وإستنكرت إستبعادها من المباحثات. ولا تعنى تلك المواقف المعلنة أنها نهائية وغير قابلة للتعديل، فتلك هى مهمة ودور "السياسة" التى سيضطلع بها المبعوث الأممى الجديد والأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالنزاع فى ليبيا. يتمثل التحدى الثانى فى التغلب على ضعف، وربما إنعدام، الثقة بين الأطراف الرئيسية. فالمشير خليفة حفتر هاجم مرارا فى وسائل الإعلام بعض أعضاء المجلس الرئاسى متهما إياهم بالمتطرفين المرتبطين بتنظيم القاعدة الإرهابى أو بصلتهم بتنظيم داعش. كما انه لم يخف استعداده للزحف عسكريا على العاصمة طرابلس بهدف توحيد البلاد والقضاء على الإنقسام الواقعى الراهن بين الشرق الواقع تحت سيطرته والغرب الذى تسيطر عليه حكومة الوفاق الوطنى بقيادة السراج والميليشيات المتحالفة معها. ولا تخف تلك الميليشيات، خاصة الإسلامية منها، تشككها فى نوايا المشير حفتر وهى تناصبه العداء. ولا يبدو ان السراج لديه القدرة على السيطرة على تلك الميليشيات. فحكومة الوفاق الوطنى لا تسيطر فعليا إلا على أجزاء من غرب البلاد و من طرابلس، بينما مازالت العديد من المناطق ومن أحياء العاصمة تقع تحت سيطرة ميليشيات "مصراتة" وما كان يسمى ب"حكومة الإنقاذ الوطنى"، غير المعترف بها دوليا والتى تهيمن عليها القوى والميليشيات الإسلامية. كما أن إقليم فزان فى الجنوب الغربى يقع بدرجة كبيرة خارج سيطرة طرفى إعلان باريس. ويثير هذا الوضع شكوكا هائلة حول القدرة على تنظيم إنتخابات عامة، تشريعية ورئاسية، فى الربيع المقبل، إذا لم يحدث تقدم واضح نحو إتفاق الأطراف الرئيسية على تسوية سياسية مرضية. وهو ما يعنى عمليا ضرورة إدخال بعض التعديلات على إتفاق الصخيرات، الذى أبرم فى المغرب فى ديسمبر 2015. وتتفق معظم الأطراف على ذلك، ومن بينهم مبعوث الأممالمتحدة الذى أعلن أن إتفاق الصخيرات مرجعية ولكنه "ليس مرجعية قرآنية". وهو ما يعنى ضرورة تعديله بحيث يأخذ فى إعتباره التطورات التى حدثت على أرض الواقع منذ توقيعه، خاصة تقدم قوات الجيش بقيادة حفتر، التى نجحت فى 5 يوليو فى إستعادة السيطرة على كامل مدينة بنغازى فى شرق البلاد، بعد ثلاث سنوات من المعارك مع الميليشيات المتطرفة. كما انها مدت نفوذها إلى بعض مناطق الغرب والجنوب، بما فيها عاصمة الجنوب "سبها"، بعد سيطرتها على قاعدة الجفرة العسكرية الهامة بوسط البلاد فى يونيو. ولاريب أن تلك الإنتصارات العسكرية قد زادت من شعبية المشير حفتر، ليس فقط فى شرق البلاد، وإنما كذلك فى بعض مناطق الغرب والجنوب. ويرى البعض أن فرص قائد الجيش كبيرة فى الفوز بالإنتخابات الرئاسية، إذا ما أمكن إجرائها فى الربيع القادم، حيث أن غالبية الليبيين يتطلعون لعودة الإستقرار بعد أكثر من ست سنوات من المعارك والإضطرابات السياسية والإقتصادية منذ سقوط القذافى فى أكتوبر 2011. وهم يعتقدون أن حفتر هو الأقدر على إستعادة هذا الإستقرار فى مواجهة عشرات الميليشيات العسكرية التى تدين بالولاء لإنتماءات قبلية أو مناطقية أو عقائدية أكثر من إنتمائها للوطنية الليبية. ولاشك أن دعوة حفتر لإجتماع باريس كان إعترافا بدوره المتعاظم فى العملية السياسية فى ليبيا. فالرئيس الفرنسى ماكرون هو أول رئيس غربى يلتقى بقائد الجيش الليبى. وهو ما يمثل توجها براجماتيا جديدا لباريس يعترف بتطور الأوضاع على الأرض، بعيدا عن الثوابت التى ميزت الموقف الأوروبى سابقا والتى إتسمت بالتشكيك فى نوايا حفتر وإستراتجيته فى تقديم الحل العسكرى على التسوية السياسية. وبرغم هذا التطور، فإن احدى نقاط ضعف إعلان باريس تتمثل فى تجاهل وعدم إشراك الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالنزاع الليبى. وقد إستاءت إيطاليا بشدة على سبيل المثال من التحرك المنفرد لباريس. ومن المعروف أن روما لها سياسة نشطة فى ليبيا. كما أنها معنية قبل غيرها من دول أوروبا بأحد النتائج السلبية المباشرة لإستمرار النزاع الليبى والمتمثلة فى تدفق عشرات آلاف اللاجئين غير الشرعيين. وكان من شأن إشراك تلك الأطراف أن يعطى زخما وقوة دفع للمبادرة الفرنسية. إلا أن الأمر يمكن تداركه من خلال الإشراك اللاحق لدول الجوار الليبى، كمصر والجزائر، والأطراف الدولية المهتمة بإحلال السلام والإستقرار فى ليبيا، مثل إيطاليا والإتحاد الأوروبى، فى جهود تطبيق مبادىء إعلان باريس. لمزيد من مقالات د. هشام مراد;