الانطلاقة الحقيقية أو العصر الذهبى للغناء كما يطلق عليه النقاد بدأت من الإذاعة المصرية فى مبناها القديم بشارع الشريفين وبلغت قمة توهجها وانتشارها الواسع مع ثورة يوليو 1952التى جمعت حولها كوكبة من كبار الشعراء وأساطين الموسيقى ونجوم الغناء فى مصر والوطن العربى المؤيدين للثورة الذين عبروا عن مبادئها الستة فى قصائد وأغنيات لا تزال ترددها الأجيال رغم مرور أكثر من ستين عاماً على إنتاجها وهو ما يؤكده دائماً الاعلامى الكبير رئيس الاذاعة الأسبق فهمى عمر الذى كان معاصراً لهذه النهضة الغنائية ومتابعاً لتطوراتها منذ عهد الموسيقار محمد حسن الشجاعى مراقب عام الموسيقى والغناء فى ذلك الوقت وأنشاء رئيس الإذاعة لجنتين الأولى لنصوص الأغانى التى ترد من المؤلفين وتضم نخبة من كبار الشعراء يقومون بفحص وإجازة الصالح منها للغناء ولجنة الاستماع وتضم نخبة من كبار الملحنين الذين يستمعون إلى الألحان ويقررون صلاحيتها للغناء من عدمه، ومن أسماء الشعراء الذين صنعوا زمن الفن الجميل والعصر الذهبى للغناء بيرم التونسى وأحمد رامى ومحمود حسن اسماعيل ومرسى جميل عزيز وحسين السيد وعبد الفتاح مصطفى وصلاح جاهين وكامل الشناوى ومأمون الشناوى واسماعيل الحبروك وفاروق شوشه وأنور عبد الله وغيرهم بالإضافة إلى كبار الملحنين المشاهير، وكانت اللجنتان صمام أمان لمنع أى فنون هابطة يمكن أن تسلل الإذاعة التى كان هدفها الأول الارتقاء بالذوق العام والاهتمام بالفن الأصيل الذى يليق بمكانة وسمعة الإذاعة المصرية، ويضيف الإعلامى الكبير فهمى عمر أن أى مطرب لم يكن معتمداً وموافق عليه من لجنة الاستماع كمطرب بإعتباره مطرباً لا يمكنه مجرد المرور أما شارع الشريفين حتى لا يراه بالصدفة الشجاعى الذى خرجت من عباءته كل هذه الأصوات الغنائية الأصيلة ولذلك ظهرت أسماء كثيرة من الشعراء والملحنين اللذين انتسبوا إلى هذا الزمن وتغنت بإنتاجهم الشعرى نجوم الغناء فى مصر والوطن العربى ليستمر عطاء هذه الكوكبة من الشعراء والملحنين إلى ما بعد ثورة يوليو 1952 وحرب 1956 ثم عبور أكتوبر 1973 ليبلغوا قمة عطائهم وتألقهم بمناسبة هذا الانتصار العظيم . أما حكاية الكاتب الكبير أنيس منصور وشاعره المفضل مرسى جميل موضوع حلقتنا اليوم فتتبدى فى أن أنيس كان من عشاق مرسى جميل ويرى من وجهة نظره الخاصة أنه من أجمل وأرق كتاب الأغنية رغم وجود زملائه الذين رافقوه فى هذا الزمن وكانت لهم مكانتهم أيضا ً فى قلب أنيس منصور وكان أنيس كثيراً ما يحدثنى عن مرسى وقال لى ذات مرة أنه سعيد باللقب الذى أطلقه عليه النقاد «شاعر الألف أغنية» فقلت للأستاذ أنيس أنه شاعر الألف أغنية ناجحة فأعجبه هذا الوصف وكنت أول من أطلق عليه لقب مهندس الأغنية المصرية فابتسم وقال لى كيف ؟ قلت لأنه عندما يكتب الأغنية يصمم لها الأساس السليم القوى ولا يغش فى مواد البناء فتعيش أغانيه لسنوات طويلة وترددها الأجيال بعكس معظم أغانى هذه الأيام التى لا يزيد عمرها الافتراضى عن ستة شهور أو عام واحد على الأكثر وتصبح كالعمارات الآيلة للسقوط لافتقادها للمواصفات والشروط الهندسية المطلوبة التى تضمن لها البقاء . وكان من عادة أنيس كما أعرفه أن يخلد إلى نومه مبكرا ً فى حدود التاسعة مساء ً ثم يستيقظ فى الخامسة صباحاً ليجلس على مكتبه ويكتب الأعمدة التى تجود بها قريحته للنشر بالأهرام حتى الثامنة صباحاً ويتناول طعام الإفطار بعد قراءة الصحف وفى العاشرة صباحاً يكون السائق فى انتظاره ويجلس فى الكرسى المجاور له ويدير قرص الراديو ويستمع إلى بعض الأغنيات من الإذاعة إلى أن يصل إلى مكتبه فى الأهرام ويسلم الأعمدة التى كتبها بخط يده إلى مدير مكتبه نبيل عتمان الذى يكتبها بدوره على الآلة الكاتبة ويرسلها إلى المطبعة لتأخذ دورها فى النشر، ثم يطلب منه الإتصال بأصدقائه الثلاثة الذين يطمئنون عليه بصفة دائمة وهم زميلى وصديقى الشاعر الجميل والرقيق فاروق جويدة ثم كاتب هذه السطور والزميلة الكاتبة الصحفية المتألقة سهير حلمى ويلتقى بالموجود منهم ولو لدقائق وكان يسألنى دائما ويقول عندما استمع إلى أغنية وأنا فى طريقى ويعجبنى كلام هذه الأغنية أنتظر حتى تنتهى وأسمع صوت المذيع فأكتشف أنها من كلمات مرسى جميل عزيز وهو ما يحدث يومياًً مما جعل أنيس يشعر بأن مرسى هو شاعره المفضل الذى يتذوق كلماته كل يوم ويطلب منى أن أسمعه بعض كلمات مرسى غير تلك التى سمعها فى الراديو فأسمعه أجمل ما كتبه مرسى للفنانة نجاة «أنا باستناك» التى أعجبت أنيس كثيرا ً وينصت لها بحب «يا أجمل ليلة فى عمرى .. حبيبى جاى .. يا عقد لولى على صدرى .. حبيبى جاى .. يا وردة بيضا فى شعرى .. حبيبى جاى « ويعجبه أكثر المقطع الذى يقول فيه مرسى « أزوق ليلى .. وأتزوق لأجمل وعد .. ودوب لك فى شرباتى .. شفايف الورد .. وأقول لك دوق حلاوة القرب .. بعد البعد .. أنا باستناك. ولا ينسى أنيس أول أغنيتين كتبهما مرسى لفايزة أحمد ولحنهما الموجى بعد مجيئها للقاهرة وينبهر بهما «يامه القمر ع الباب نور قناديله.. يامه أرد الباب ولا أناديله» والثانية «أنا قلبى إليك ميال.. ومفيش غيرك ع البال .. إنت وبس اللى حبيبى» ويطرب لهما أنيس ويرى أن فايزة أحمد من أجمل الأصوات النسائية بعد سيدة الغناء أم كلثوم. أتمنى أن يقرأ كتاب الأغنية الشباب ما كتبه مرسى جميل وزملائه من جيل الرواد ليتعلموا منهم أصول كتابة الأغنية الراقية الجميلة.