بعد عشر سنوات من عرض العملين الكلاسيكيين لمسرح العبث أو اللا معقول علي مسارح باريس أوائل الخمسينيات ذ مغنية يونيسكو الصلعاء وفي انتظار جودو لصمويل بيكيت ذ عرضت مسارح القاهرة إبان عصرها الذهبي في الستينيات بعض مسرحيات لتوفيق الحكيم كتبها تأثراً بمسرح العبث العالمي, (وإن تكن ربما لم تعرضها كلها). وكانت أولي هذه المسرحيات التي نحا فيها الحكيم منحي اللامعقول هي «يا طالع الشجرة» التي نُشرت عام .1962 وعنوان المسرحية دال علي لا معقولية المنهج؛ إذ هو مستوحي من أهزوجة شعبية فيها ما في تلك الأهازيج عادة من روح سيريالية: يا طالع الشجرة/ هات لي معاك بقرة/ تحلب وتسقيني/ بالمعلقة الصيني.. إلخ, وبهذا اصطاد الحكيم عصفورين بحجر, فاختار موضوعاً وعنواناً صالحاً لعمل ينتمي للا معقول, وفي نفس الوقت ضرب جذرا في التراث القوميّ يعادل كونه في هذا العمل ناقلاً عن الغرب المعاصر. ففي «يا طالع الشجرة» يسير الحكيم بخطاه الأصيلة المتفردة علي درب يونيسكو في «المغنية الصلعاء», حين يدور الحوار بين الشخصيات وكأنه تواصل وتفاهم وتناغم, بينما كل يغني علي ليلاه ولا يسمع الآخر علي الإطلاق. فالعجوز يتحدث طول الوقت عن شجرته, بينما تتحدث زوجته عن الأطفال, وكل يرد علي الآخر وكأنما هو يفهم عنه ويحاوره فيما يشغله ويتواصل معه. والكل مستغرق تماماً في نفسه, إلي درجة أن الكهل درويش الشجرة يقتل في سبيل إخصابها, بدفن نفس إنسانية تمنحها عناصر جسدها المغدور ما تنمو به وتزدهر. وفي «مصير صرصار» (1966), يلتقط الحكيم تلك الأسطورة الإغريقية التي اختارها ألبير كامي لتجسيد رؤيته لعبث الحياة الإنسانية وافتقارها تماماً للمعني, في كتابه الفلسفي «أسطورة سيزيف» (1942) الذي يري البعض أنه الأساس الفلسفيّ لمسرح العبث. والأسطورة ذ كما سردتُها باختصار في المقالة السابقة ذ تحكي عن آثم عاقبته الآلهة بجحيم أبديّ من اللا جدوي, حيث يحمل علي كتفيه صخرة يصعد بها للأبد إلي قمة تل, وبمجرد بلوغه القمة تنزلق الصخرة من ظهره وتتدحرج إلي أسفل الجبل ليصعد بها من جديد فتتدحرج للسفح, وهكذا إلي الأبد. ورغم هذا العبث المأساويّ المضحك, فإن كامي في مقالته لا يدعو الإنسان للانتحار أو يراه جديراً به؛ بل يعظمه لإصراره ورفضه لليأس, وتحديه للا جدوي واللا معني في موقفه الوجوديّ, وفي نضاله منذ فجر تاريخه لإضفاء المعني علي حياته وكفاحه وسعيه. وفي «مصير صرصار» يستلهم الحكيم ذبإبداع- تلك الأسطورة وموقف كامي الفلسفيّ الذي بناه عليها, فيقدم لنا المشهد الأخير إنساناً كسولاً مغلوباً علي أمره, مستسلماً لسيطرة زوجته وبلادة حياته, نراه يقف مشدوهاً في حمام منزله يراقب بإعجاب كفاح صرصار ساقط في قاع البانيو يتسلق بإصرار سطحه الأملس حتي قرب قمته ليسقط بفعل الجاذبية ونعومة السطح وشدة انحداره.. ويتكرر هذا الصعود العبثيّ مئات المرات بلا توقف أمام عيني الزوج المقهور الكسول المغلوب علي أمره, فيبهره ويأسره, حتي إنه يستغرق تماماً في المشاهدة, فيتمرد لأول مرة علي أوامر زوجته وزميلته في العمل بوجوب النزول فوراً إلي المصلحة الحكومية التي يعملان بها. فالزوج الغارق في البلادة والانسحاق أمام واقعه, يتمرد دون أن يدري علي ذلك الواقع حين يستغرق تماماً في مشاهدة سيزيف الصرصار حاملاً صخرة قدره العبثي, ورافضا الاستسلام لليأس والعبث واللا جدوي ومواصلاً الصعود مهما كانت نتيجته المحتومة: السقوط من جديد. هذا هو الموقف الإنسانيّ الذي رآه كامي في كتابه إصراراً وتمرداً علي اللامعني واللا جدوي مثيراً للإعجاب, وجسَّده الحكيم في ذلك المشهد المألوف الذي نراه جميعاً من وقت لآخر: صرصار في قاع بانيو يحاول الصعود بلا انقطاع ليسقط من جديد, لكنه لا ييأس ويواصل مهما تكرر سقوطه. وللحكيم مسرحيات أخري ذ في نفس الفترة في ستينيات القرن ذ تأثر فيها بموجة اللامعقول العالمية في المسرح, مثل «الطعام لكل فم» (1963) و»بنك القلق» (1967) التي سمّاها «مسرواية» ذ أي شكل يجمع بين السرد الروائي والحوار المسرحي. وفيها جميعاً خروج كبير ذ متفاوت الدرجات ذ عن الواقعية ومحاكاة الواقع اليوميّ, وحرية أكبر للكاتب وجرأة علي إعادة صياغة الواقع في أعماله, تماماً كما يفعل بيكاسو في تكعيبيته أو سلفادور دالي في لوحاته السيريالية, أو بدرجة أقل, كما نري عند التأثيريين الفرنسيين والتعبيريين الألمان. لمزيد من مقالات بهاء جاهين