بينما بلغ المسرح البريختى الملحمى ذروته فى برلين فى منتصف القرن الماضى, كانت باريس تقدم على مسارحها بعض أفضل نماذج مسرح العبث وأنضجها. نذكر منها أول أعمال الكاتب الرومانى يوجين يونيسكو «المغنية الصلعاء» (1950), التى مازالت تعرض إلى الآن على خشبة مسرح «أوشيت» بباريس ضاربة رقما قياسيا عالميا لمسرحية تعرض بلا انقطاع على خشبة مسرح واحد؛ كما نذكر الرائعة العبثية الأخرى «فى انتظار جودو» (1953) للكاتب الأيرلندى صمويل بيكيت. ولكن قبل التحدث عن تفاصيل هذين العملين, لابد من الحديث عن ظاهرة مسرح العبث بشكل عام, كمولود لأحداث أوروبا الفاجعة على امتداد النصف الأول من القرن العشرين, لا مجرد رد فعل شكلانى لانتزاع السينما من المسرح القدرة على محاكاة الواقع بدقة. فمُسَمَّى «العبث» أو «اللامعقول», الذى يلخص رؤية كُتّاب هذه الحركة, ناتج طبيعى لوقوع أكبر مذبحتين فى التاريخ, أولاهما فى الربع الأول من القرن الماضى فى أرقى مهاد الحضارة الغربية, وهى الحرب العالمية الأولى(1914-1918) التى استغرقت أربعة أعوام حصدت أرواح عشرين مليوناً وخلفت من العاهات عشرين أخرى من الملايين. وهو عبث فى حد ذاته؛ أما قمة العبث: أن تتورط الحضارة الكبرى نفسها بعدها بعشرين من الأعوام فى مذبحة أبشع بما لا يقاس, انتهت بثمانين مليونا من القتلى بعد ستة أعوام من الذبح المتواصل (1939-1945). وقبل عرض المسرحيتين سابقتى الذكر فى الخمسينيات, صدر عمل فلسفى هو مقالة طويلة لألبير كامى فى كتاب بعنوان أسطورة سيزيف (1942) أى فى ذروة مجزرة الحرب العالمية الثانية, قدَّم فيه كامى مفهوم العبث ومصطلحه, الذى أطلقه فيما بعد الناقد الإنجليزى مارتن إيسلين على مجموعة من كتاب المسرح, منهم, إضافة لبيكيت ويونيسكو, الفرنسى جان جينيه, والإنجليزى هارولد بينتر, والإسبانى فرناندو آرابيل, والأمريكى إدوارد أولبى, وآخرون. وذلك فى كتابه مسرح العبث (1962). وسيزيف فى الأساطير الإغريقية آثم عاقبته الآلهة بجحيم خاص به هو اللاجدوى, حيث يحمل إلى الأبد صخرة على ظهره إلى قمة جبل, لتتدحرج الصخرة فى كل مرة للسفح فيحملها من جديد لقمة الجبل لكى تسقط مرة أخرى.. وهكذا بلا نهاية. وفى الإطار التاريخى العبثى لمجزرة عالمية ما إن انتهت حتى تكررت وبعنف أشد, رأى كامى فى كتابه أن الوجود الإنسانى عبث يتكرر بلا معنى. وفى نفس ذلك الإطار التاريخى وُلد مسرح العبث وازدهر فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين, فكان المعادل المسرحى للسيريالية والتكعيبية والدادا (مذهب التشويه) فى الفن التشكيلى, وكلها- كمسرح العبث نفسه - من مواليد باريس, فكان مثلها تمردا شكلانيا على الواقعية الفوتوغرافية, وفى الوقت نفسه كان احتجاجاً سياسياً ذا عمق فلسفىّ على المأزق الذى سقطت فيه مرتين الحضارة الغربية فى نصف قرن كان ذروة التقدم وذروة التوحش والهمجية, وذروة العبث واللامعقول فى آن معاً. فكيف جسّد كتاب العبث هذه الرؤية؟ سنكتفى بمثالين هما الأشهر: المغنية الصلعاء ليونيسكو, و « فى انتظار جودو» لصمويل بيكيت . فى «المغنية الصلعاء» قدم يونيسكو التواصل الإنسانى المزعوم فى شكل حوار بين الشخصيات لا معنى له فى حد ذاته وغير مترابط فى علاقته بكلام الآخر؛ فكلام الزوج على سبيل المثال عجيب فى ذاته, ورد الزوجة لا علاقة له بكلام الزوج, ولكن الزوجين مستمران فى الحديث وكأن التواصل حادث والمعنى موجود. وتنتهى المسرحية بنفس حوار بدايتها, ولكن على لسان الزوجين آل مارتن اللذين حلا ضيفين على الزوجين آل سميث اللذين بدأت بهما المسرحية. هكذا تتكرر الأيام كما يتكرر سقوط الصخرة أبدياً عن كتفى سيزيف, وكما يتكرر انتظار إستراجون وفلاديمير فى مسرحية فى انتظار جودو لذلك المخَلِّص المجهول الغامض الذى لا يأتى أبداً. نفس الحركة الدائرية للأحداث التافهة التى يبدأ بها كل يوم أو ينتهى؛ نفس العجز ونفس الملل ونفس الانتظار اليائس, ونفس الأمل فى الخلاص رغم أن كل شىء يدعو إلى اليأس؛ نفس الغرق فى اليأس ونفس التشبث الأبله بالأمل كصخرة سيزيف يتكرر للأبد؛ نفس الجحيم المأساوى المضحك الذى يولد ويموت كل يوم.. مما دعا بيكيت لأن يسمى مسرحيته ب التراجيكوميديا,ٍ أى المأساة المضحكة أو الملهاة المبكية.. ومن أجل تجسيد ذلك العبث اليومى جَرَّد الواقع من كل التفاصيل لكى يضع كل الخطوط تحت كلمتى الانتظار اليائس - الذى لا يفقد الأمل تماماً رغم الإحباط اليومى- لشخصين على خشبة مسرح عار, تحت شجرة شبه عارية بلا ورق أخضر.. إلا ما يتوهمه المنتظران أحياناً من خروج ورقة خضراء. لمزيد من مقالات بهاء جاهين