تمثل دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى كأول رئيس لدولة من دول المنطقة لحضور قمة «فيشجراد» اعترافا جديدا يضاف إلى الاعترافات الكثيرة التى تراكمت خلال السنوات الثلاث الماضية بنجاح السياسة الخارجية المصرية التى أرساها الرئيس والقائمة على الانفتاح على كل الدول والتجمعات السياسية والاقتصادية بهدف تعظيم دور السياسة الخارجية فى خدمة الأوضاع الداخلية اقتصاديا وسياسيا. إنها عملية تأمين موقع مصر ودورها على الخريطة الإقليمية والدولية. فنجاح واستقرار مصر يمثل مصلحة ليس فقط للمنطقة ولكن كما قال رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان يمثل مصلحة لأوروبا. أما المصلحة المصرية فى حضور المؤتمر والزيارة الثانية لدولة المجر فهى -كما أكد الرئيس- الارتقاء بالعلاقات الاقتصادية إلى مستوى يتناسب ومستوى العلاقات السياسية المتميزة والممتدة لحوالى 90 عاما، ويتناسب مع حجم الفرص المتاحة للتعاون بين الجانبين خاصة فى مجال الاستثمارات بما من شأنه خدمة الاقتصاد المصرى ودعم المشروع المصرى للتحول إلى مركز إقليمى وعالمى لتوليد ونقل الطاقة. ومن خلال متابعتى للقاءات الرئيس مع المسئولين المجريين لاحظت اهتمامهم ومتابعتهم للشأن المصرى بشكل لافت للنظر,- وخاصة ما يتصل بسياسة الدولة فى مواجهة الإرهاب وبطريقة التعامل مع التحديات الكثيرة التى تواجهها مصر على المستويين السياسى والاقتصادي. وحيث إن زيارة الرئيس للمجر قد أتت بعد يومين من قرار رفع أسعار الوقود فى مصر، فقد كان الملف حاضرا وبقوة سواء فى كلمات الرئيس أو حتى فى كلمات المسئولين المجريين. إذ قال رئيس الوزراء المجرى إن «الرئيس السيسى أحدث تغييرا عميقا أكبر بكثير مما حققناه فى المجر إلى جانب الحفاظ على البلد» وأضاف أننا لا نجد كثيرا من الزعماء القادرين على اتخاذ قرارات مهمة مثلما يحدث فى مصر. وهنا أكد الرئيس السيسى للمسئولين المجريين أن كلمة السر فيما حدث ويحدث فى مصر هو الشعب المصرى الذى لولا تفهمه لما يتخذ من قرارات لما استطاع أى رئيس أن يقوم بما نقوم به. وبينما الوضع كذلك فى المجر كان البعض فى مصر يحاول استغلال القرارات الأخيرة للهجوم على الدولة ومحاولة تصوير الأمر وكأنه غياب للرؤية من قبل الدولة ورضوخ لأجندة صندوق النقد الدولى وعدم تقدير لعواقب تلك القرارات. إذن الرئيس السيسى بزيارته للمجر يبنى فيما تم إنجازه فى مجال السياسة الخارجية، فهل يفعل الشىء نفسه فيما يتعلق بالقرارات الأخيرة الخاصة بأسعار الوقود؟ بداية، لابد من التأكيد على أن الرئيس السيسي قد سار خلال أعوامه الثلاثة في الرئاسة مشدودا بين ثلاث مصالح يفترض أنها متكاملة ولكنها تبدو في بعض الأحيان متعارضة. المصالح الثلاث هي المصلحة العليا للوطن ومصلحة المواطن ومصلحته كرئيس سيكون عليه الوقوف أمام حساب الشعب ساعة الانتخابات بعد انتهاء فترته الرئاسية الأولى. ومنذ اليوم الأول بدا واضحا أن الاهتمام الأول والأخير للرئيس هو المصلحة العليا للوطن ثم مصلحة المواطن, غير عابئ بتأثير تحقيق هاتين المصلحتين على شعبيته أو مصلحته كرئيس. أدرك الرئيس أن مصلحة المواطن وشعبيته لابد لهما أن تصبا في مصلحة الوطن العليا، وإذا تعارضت تلك المصالح فالانحياز يكون لمصلحة الوطن العليا. وفي هذا السياق، اتخذ الرئيس قرارات كثيرة في غاية الصعوبة لم يكن وقعها إيجابيا على المواطن أو على الرئيس نفسه. مناسبة هذا الحديث هي القرارات الأخيرة المتعلقة بزيادة أسعار الوقود. فمن المعلوم بالضرورة أن زيادة تلك الأسعار تثقل كاهل المواطنين وأنها لن تجد أي ترحاب من قبلهم، ومن المعلوم أيضا أن تلك القرارات ربما تؤثر بالسلب على الرئيس وهو مقبل على الانتخابات الرئاسية بعد أقل من عام. السؤال إذن لماذا اتخذ الرئيس تلك القرارات؟ الإجابة باختصار لأنها تحقق المصلحة العليا للوطن. والمصلحة العليا هنا هي تخفيف الأعباء عن كاهل الدولة لتقليل عجز الموازنة الذي سجل 9.8% من نسبة الناتج المحلى الإجمالي خلال العام المالي 2016/ 2017، بما يسمح بتحسين الأداء الحكومي في مختلف الخدمات وضمان توزيع أفضل للدعم الذي تقدمه الدولة بوصوله إلى مستحقيه. ففي ظل زيادة قيمة الدعم في الموازنة الجديدة بنحو 63 مليار جنيه، وزيادة فاتورة دعم المشتقات البترولية بنحو 35 مليار جنيه، وفي ظل ما تفرضه مقتضيات إنجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي، وما تمخض عن تحرير سعر الصرف، في ظل كل ذلك لم يكن ممكنا العدول عن تنفيذ مراحل سياسة تحرير أسعار الطاقة التي بدأت بعد شهر واحد من تولي الرئيس السيسي مقاليد الأمور، ثم وضعت الحكومة خطة لرفع الدعم تدريجيا. وهنا لابد من التذكير بالإشادة التي استقبل بها قرار الرئيس السيسي في يوليو 2014 خفض الدعم عن الطاقة باعتبار أن تلك الخطوة كانت تعبيرا عن جرأة سياسية للاقتراب من ملف لم يجرؤ أحد من الاقتراب منه، وانطلقت تلك الإشادة من أن الرئيس لم يأبه حينها بما قد يمثله ذلك القرار من تداعيات على شعبيته. وفي هذا الإطار أكد الرئيس مرارا أنه «إذا خشينا من الإصلاح وضريبته علي شعبية رئيس أو فرصة رئاسة أخرى نكون قد أخطأنا في حق وطن ومستقبل أبنائه»، وأضاف الرئيس متسائلا «ما الأهم: الشعبية، أم مصر ومستقبلها؟.. الشعبية المؤقتة، أم ما سيقوله الناس بعد سنوات طويلة، والأهم السؤال أمام الله وهل حافظت علي الأمانة»؟ وهو تساؤل يمثل في اعتقادي مفتاحا لفهم وتقبل ما يتم اتخاذه من قرارات غاية في الصعوبة, ولكنها قبل كل ذلك غاية في الأهمية, ويمثل التراجع عنها إهدارا لما تم اتخاذه من قرارات وخطوات سابقة. أما فيما يتصل بشعبية الرئيس فإن التعامل الصحيح معها لابد أن ينطلق من الاعتبارات التالية: أولا: أنه لا يوجد شك في أن شعبية الرئيس - أي رئيس - لحظة انتخابه لا يمكن أن تستمر على ما هي عليه. إذ إنه من الثابت أن صعوبات العمل والقرارات الصعبة التي على القادة اتخاذها في أوقات معينة تنال من رصيد تلك الشعبية. فالرئيس ينتخب لا ليحافظ على شعبيته بل لينهض بما من شأنه تحقيق المصلحة العليا للوطن. ثانيا: أنه كان من السهل على الرئيس الحفاظ على شعبيته بل وزيادتها بأكثر مما كانت عليه لحظة انتخابه. فاتخاذ قرارات «شعبوية» كان كفيلا بإرضاء المواطنين، بينما قرارات الإصلاح وحماية الوطن من مخاطر كثيرة قد يتعرض لها هي قرارات لا تروق غالبا للمواطنين، ولكنها كما قال الرئيس مثل «الدواء المر». ثالثا: أن هناك قوى داخلية تتربص بتلك الشعبية وتسعى للتأثير عليها والتشكيك فيها، وتسعي كذلك لاستغلال ما قد يحدث لها من تراجع ولو مؤقت نتيجة أحداث معينة لتأكيد مواقف ووجهات نظر خاصة بهم سبق للرأي العام المصري أن لفظها في مناسبات عدة لا تختلف عن تلك المتعلقة بقرارات رفع أسعار الوقود. رابعا: أنه لا يمكن التأكد من حقيقة شعبية الرئيس وما إذا كانت تتراجع أم لا دونما توافر معلومات موثوق فيها بهذا الشأن، ومن ثم يظل الاختبار الحقيقي لتلك الشعبية هو يوم الانتخابات القادمة. وما لدينا حتى الآن يؤكد أن الدولة كان لديها - على نحو ما أكد الرئيس في المجر - مؤشرات قوية حول أن الرأي العام سيتفهم قرارات رفع أسعار الوقود ويتقبلها رغم صعوبتها انطلاقا من إيمانه بضرورتها. وبدون أدنى شك فإن سلوك المصريين تجاه القرارات الأخيرة يؤكد أن وجهة نظر الدولة والمؤشرات التي تعتمد عليها صحيحة تماما. ومع ذلك، فإن الموضوعية والأمانة تفرضان ضرورة القول إن مستوى أداء الحكومة في التعامل مع تداعيات القرارات الإصلاحية المؤلمة بدا مؤلما في حد ذاته، كونها لم تتخذ من الاحتياطات ما من شأنه تخفيف أثر تلك التداعيات على المواطنين، وبدا أنها لم تستفد من أدائها في المواقف السابقة ولم تتدارك ما وقعت فيه من أخطاء. فهل تستعد الحكومة من الآن لما تبقى من مشروع الإصلاح حتى لا يحدث نفس ما حدث الأسبوع الماضي؟ وإذا كانت جولات الرئيس السيسي الخارجية تستهدف ترسيخ أقدام مصر في المحافل الدولية، فإن قرارات الإصلاح الأخيرة تستهدف تثبيت أقدام الدولة في الملف الاقتصادي بعد النجاح الذي حققته في الملفين السياسي والأمني. وفي كل الأحوال فإن مهمة تثبيت الدولة وتحريرها من القيود والأعباء التي تعوق عملية استردادها لمكانتها والانطلاق لمستقبل أفضل، تظل هى المصلحة العليا الأولى برعاية الرئيس وأجهزة الدولة ومن قبلهم الشعب المصري نفسه. لمزيد من مقالات بقلم علاء ثابت