كان شعر أمل دنقل شعر وعى مرهفا بالزمن الذى يجرى ويتغير من حوله، وكان هذا أمرًا طبيعيًّا؛ لأن أمل صعد إلى منطقة الضوء الشعرى الساطع واحتل بؤرتها مع نهاية الستينيات، بعد هزيمة 1967 التى أبان عن مرارتها ووجعها الذى شمل كل النفوس فى قصيدته «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» فى الديوان الذى حمل اسم القصيدة الأساسية فيه، والتى تخبرنا صفحات الديوان نفسه أنها كتبت بعد أيام معدودة من هزيمة 1967، وتحديدًا فى اليوم الثانى عشر من شهر يونيو. ولا غرابة، والأمر كذلك فى أن يضع الشاعر فى نهاية كل قصيدة التاريخ الذى فرغ من كتابتها فيه. يحدث ذلك فى أغلب الدواوين ما عدا بعض القصائد التى نسى أمل نفسه، فيما يبدو، أن ينبهنا إلى تاريخ كتابتها. ولحسن الحظ أن هذا النوع من الوعى كان موجودا عند الشاعر منذ البداية، فقد كان حريصًا على تأريخ القصائد التى يكتبها منذ أن بدأ كتابة الشعر؛ ولذلك لم أبذل جهدًا كبيرًا فى تعيين أو تحديد قصائد البدايات التى كتبها إلى أن وصل إلى تحقيق مرجوه الشعرى فى مدينة الإسكندرية، حيث كتب قصيدته الشهيرة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» فى أبريل 1962، وذلك دون أن يذكر لنا على وجه التحديد أى يوم من أيام أبريل، لكن الحدث الأساسى الذى تشير إليه القصيدة، هو أحد الانتخابات التى كانت تقام، فى عهد عبدالناصر، فى هذا الشهر منذ عام 1962، وهو العام الذى حدث بعد فشل الوحدة بين مصر وسوريا فى سبتمبر1961 تحديدًا، حيث أعلن انقلاب عسكرى سورى انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، وسقطت بذلك أول وحدة عربية حلم بها عبدالناصر وحلمنا بها معه؛ خصوصًا بعد أن غنينا لها واحتفلنا بها فى فبراير 1958، عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا، وتأسست الجمهورية العربية المتحدة، وأصبح جمال عبدالناصر رئيسًا للجمهورية، ومن ثَم أصبحت كل من مصر وسوريا قطرين من أقطار هذه الوحدة التى حلمنا بها كثيرًا، لكن كان لا بد أن تنتبه قوى الشر إلى هذه الوحدة وتعمل على هدمها، وهو الأمر الذى تحقق بعد ثلاث سنوات تقريبًا من إنشائها، أقصد الإنشاء الذى ارتبط بمرحلة انحسار الاستعمار الاستيطانى بوجه عام؛ إذ استطاعت الاستقلال أربع وثلاثون دولة فى إفريقيا ما بين عامى 1958 1968. والمؤكد أن الأعوام الناصرية لم تكن أعواما سعيدة الوقع على وجدان أمل فى كل الأحوال؛ فقد حدث أن قام النظام الناصرى بحملة اعتقالات واسعة فى مصر ضد الشيوعيين فى مارس 1959، قبيل زيارة خروتشوف إلى مصر. واستمرت اعتقالات الشيوعيين إلى عام 1964، وذلك بعد أن زال العداء التقليدى بين الناصرية والشيوعية إلى درجة ملحوظة. ولكن العداء لم يختف تماما، فقد ظل مستمرًّا ينتقل من الدائرة الرسمية للحكم إلى الدوائر غير الرسمية المرتبطة بالحكم والمساهمة فى تكوين الوعى الثقافى العام الذى ظل نافرا من فكرة الانتماء إلى الشيوعية، تلك التى رأى فيها خروجًا على الدين والوطنية فى آن. ولذلك مضت السنوات الناصرية القليلة التى عاصرها أمل– بعد أن نضج شعره، وأصبح شاعرًا قوميًّا مرموقًا- دون أن تتوقف حالة العداء المعلن أو المكتوم بين السلطة السياسية والشيوعيين. وظل الأمر على هذا النحو على الرغم من كل ما كان يجمع الطرفين فى الحالات القومية التى كانت تتجاوز الاثنين معًا؛ ابتداء من حرب الاستنزاف المجيدة التى نهضت بها العسكرية المصرية، من أبريل 1969 إلى اكتمال الإعداد الفعلى لمرحلة الثأر من هزيمة 1967 واستعادة الأراضى المحتلة، وهو الأمر الذى ترتب عليه – خصوصا بعد التأثيرات الإيجابية لحرب الاستنزاف- الغارات الإسرائيلية فى عمق الأراضى المصرية، وهو الأمر الذى دفع عبدالناصر إلى الاستعانة بالخبراء السوفيت فى المجال العسكري. واستمر الأمر كذلك إلى أن قبل عبدالناصر وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، حسب خطة روچرز فى أغسطس 1970. ولكن سرعان ما جاء سبتمبر (أيلول الأسود) بالاشتباكات بين الجيش الأردنى ومقاتلى منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ذلك كله فى سياق متصاعد من الأحداث الجسام التى لم يحتملها قلب عبدالناصر الذى سرعان ما توقف، تاركًا أرض المعركة التى سرعان ما تهيأت لتولى السادات حكم مصر بعده بصفته نائبًا للرئيس فى أشهره الأخيرة. وعندما نقرأ دواوين أمل سوف نجد كل هذه الأحداث المتعاقبة منعكسة فى شعره ومصورة فيه على هيئة قصائد تاريخية. أعنى قصائد تلفت الانتباه إلى ما يحدث خارجها، وتحدد موقف الشاعر مما يحدث، موقفًا بعد موقف، أو كارثة بعد كارثة. وهذا أمر طبيعى عندما نصف أمل بأنه شاعر رفض. فشاعر الرفض دائمًا، ومن خلال قصائده يلفتنا إلى ما يقع فى العالم الذى يكتب فيه شعره، متحدثًا عن هذا العالم الذى يشير إليه على سبيل السلب رافضًا إياه، وباحثًا فى جذوره وإمكاناته عن عالم بديل يحقق أحلام الشاعر التى ليست أحلامًا فردية فحسب، وإنما هى أحلام جماعية فى الوقت نفسه؛ ولذلك عندما حدثت كارثة أيلول الأسود، كتب عنها أمل دنقل قصيدة «تعليق على ما حدث» التى لم ينشرها فى ديوانه الأول «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، وإنما أصبحت هى القصيدة الأساسية فى الديوان الثانى «تعليق على ما حدث»؛ حيث تحول عنوان القصيدة إلى عنوان الديوان الذى كان يلفت الانتباه مباشرة إلى أحداث أيلول الأسود التى بدأت من قصف الجيش الأردنى للفلسطينيين فى مخيم الوحدات فى الأردن أو فى العاصمة «عمان» على وجه التحديد فى سبتمبر 1970، حيث تدافعت الأحداث التى انتهت بوفاة عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، بعد الجهد الخارق الذى بذله لإيقاف المذبحة التى أراد بها الملك حسين إنهاء الوجود الفلسطينى تمامًا فى الأردن. أما حادثة الانفصال فى 1961، فقد كتب عنها أمل قبل ذلك بسنوات قصيدة لم يرض عنها فيما يبدو، ولم ينشرها فى أى ديوان من الدواوين التى أشرف على إصدارها فى حياته. والمهم فى الموضوع هو تأكيد هذا الترابط الحميم بين شعر أمل وأحداث الواقع الخارجي، خصوصًا من المنظور السياسى القومى الذى جعل أمل يتحول إلى شاعر قومى مقروء على امتداد العالم العربي، وذلك بعد أن أصدر ديوانه الأول فى العام التالى لهزيمة 1967. ونظرة واحدة إلى قصائد الديوان ستلمح هذا الارتباط بين الشاعر من ناحية، والأحداث القومية من ناحية أخري، فهناك أولًا قصيدة بكائية ليلية كتبت فى رثاء الشهيد مازن جودت أبى غزالة، وكان صديقًا شخصيًّا للشاعر يتجول معه فى شوارع القاهرة العجوز قبل أن يعود إلى ساحة المعركة ويستشهد فى إحدى المعارك مع مقاتلى «العاصفة»، فرثاه الشاعر بواحدة من قصائده التى ينهيها الشاعر بقوله: «وحين يأتى الصباح- فى المذياع- بالبشائر.. أزيح عن نافذتى الستائر.. فلا أراك فلا أراك! أسقط فى عاري، بلا حراك أسأل إن كانت هنا الرصاصةُ الأولي؟ أم أنها .. هناك؟!» والقصيدة مؤرخة بعام 1968، وهى تنتقل من الذات إلى الموضوع، أو من الشعر إلى العالم الذى يحيط به، باحثة للقصيدة عن هدف تتوجه إليه بالحضور المضاد، وبعد هذه القصيدة ينتقل الديوان إلى قصيدة «الأرض والجرح الذى لا ينفتح»؛ حيث نقرأ عن الأرض العربية كلها فى قصيدة مثقلة بالرموز والإشارات والأقنعة العربية فى الوقت نفسه، فضلًا عن الإشارات التاريخية التى تصل التاريخ العربى بأعدائه الذين تتابعوا عليه منذ الرومان؛ ولذلك نرى الأرض العربية «ما زالت بأذنيها دم من قرطها المنزوع».، و»تنتظر المصير المر.. يطحنها الذبول». وتنتهى القصيدة بالأسطر التى تقول: «لم يبق من شيء يقال.. يا أرض: هل يلد الرجال؟» والقصيدة مكتوبة فى مايو 1966، وهى مثل غيرها من قصائد ديوان «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، تتحدث عن واقع خارجى أكثر من واقع داخلي، وتلفت انتباهنا إلى العالم الذى يدفعها إلى الوجود أكثر ما تلفت انتباهنا إلى الشاعر الذى يوجدها. فشعر هذا الشاعر أشبه بالشعر الذى يفر من صاحبه، كما لو كان صاحبه يفر من ذاته، وكما لو كان الشعر– فيما وصفه إليوت فى ذلك الزمان- فرارًا من الشخصية وليس تعبيرًا عنها، ولكن يظل هذا الشعر بالتأكيد موازاة رمزية لأحداث تقع فى خارج القصيدة، وتجسيدًا لمواقف تتخلق بها القصيدة. فهو تمثيل رمزى للأحداث لا يتخلى عن العنصر الذاتى بالطبع، ولكن الموضوع يطغى على الذات، وذلك عن طريق الصورة التى هى لحمة الشعر وسداه. وأعتقد أن قصائد أمل على هذا النحو هى التى جذبت إليه الجمهور العربى العريض الذى امتد من المحيط إلى الخليج؛ ذلك لأن هذا الجمهور كان يرى فى هذه القصائد صدى لما فى نفسه من خيبة ومن إحساس عميق بالحزن الذى سببه انكسار دولة المشروع القومى الذى سرعان ما تكشَّفت عن أنها دولة تسلطية، وأن هذه التسلطية جعلتها منعزلة عن الجماهير التى عانت من قمعها، ومن ثَمَّ حرمتها أهم مصدر للقوة فكانت هذه الدولة - بعد أن فقدت سندها الشعبى الحقيقى ودرعها الديموقراطى الذى يصلها بالمختلفين عنها– فريسة سهلة لقوى الاستعمار الخارجى التى عصفت بها فى الخامس من يونيو 1967، وتركتها مهزومة منكسرة لم تستطع أن تصمد طويلًا، حتى عبدالناصر الذى بذل ما يشبه المعجزات فى مصر لكى يعيد بناء الجيش المصرى ويفرغ من بناء السد العالي، سرعان ما توفى بعد أن بذل أقصى ما بقى لديه من جهد فى رأب الصدع الذى كان قد تجاوز قدرته الذاتية فى أحداث أيلول، فمات الرجل فى الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، تاركًا خليفته السادات الذى قام بتغيير الدفة إلى نقيض الوجهة الناصرية. وسرعان ما قام بالإطاحة بالناصريين فى الحكم فى مايو 1971، وبعدها بشهر واحد قام بطرد المستشارين والخبراء الروس من مصر، ولم يمنعه ذلك من القيام بحرب أكتوبر التى أثبت فيها الجيش المصرى جدارته وإعجاز إنجازه– بعد أن أعيد بنائه فى عهد عبدالناصر- فحقق الانتصار الذى لا نزال نحتفل به كل عام. لكن سرعان ما ظهرت الإدارة السلبية لنتائج الانتصار العسكري، فتتابعت اتفاقيات فصل القوات بين مصر وإسرائيل، ابتداء من يناير 1974، وذلك فى العام نفسه الذى صدر فيه القانون رقم 43 لسنة 1974 الذى كان بمثابة الإطار القانونى لسياسة الانفتاح الاقتصادي. وسرعان ما اكتشف المصريون أن الحلم الذى عاشوا فيه مع زيارة نيكسون سرعان ما تبدد بعد عزل نيكسون من الرئاسة نفسها. ودخلنا فى أزمات طاحنة لم تنته منذ صدور قانون الانفتاح الاقتصادى الذى أحال مصر من دولة تمضى فى طريق العدل والديموقراطية إلى دولة تستبدل بالعدل الظلم الاجتماعى وبالديموقراطية التسلطية السياسية التى ترتدى قفازات من حرير. وعندما وصلنا إلى مارس 1976 كان الوضع مهيأ لأن يلغى السادات معاهدة الصداقة المصرية السوڤيتية. لكن سرعان ما بدأت آثار الانفتاح الاقتصادى السلبية، فجاء يناير 1977 بثورة الخبز فى مصر، وتصاعدت الاضطرابات والمظاهرات بسبب رفع الأسعار الغذائية. ولم ينقض العام نفسه حتى قام السادات فى نوفمبر1977 بزيارة القدس، ويبدو أن إسرائيل أرادت أن تظهر للعرب أن هذه الزيارة لن تردعها عن العدوان، فكان الاجتياح الإسرائيلى للجنوب اللبنانى فى شهر مارس 1978. ولم يتأثر التوجه الساداتى إلى أمريكا التى أصبحت تمتلك 99% من أوراق اللعبة، فذهب إليها لكى يوقع اتفاقية كامب ديڤيد فى سبتمبر 1978 مع مناحم بيجين وقام كارتر الرئيس الأمريكى بالوساطة. وخلال ذلك كله حدثت مصالحة السادات مع الإخوان المسلمين الأعداء التقليديين لعبدالناصر، ابتداء من سنة 1972 واستمر التحالف بين الاثنين فى حال من الصعود الذى اكتمل فى يناير 1979 بقيام الثورة الإيرانية التى أطاحت بحكم رضا بهلوى وأقامت الجمهورية الإسلامية. لكن لم ينقض عام 1979 إلا وحدث التدخل العسكرى السوڤيتى فى أفغانستان، وكان على مصر أن تدخل فى تحالف جديد مع السعودية والولاياتالمتحدة لتجييش المقاتلين ضد السوڤيت فى أفغانستان، وذلك فى السياق المتصاعد الذى جعل الرئيس السادات يستبدل بالزعيم الوطنى «الرئيس المؤمن» الذى يقود دولة «العلم والإيمان» التى فرضت نزعة تديين قهرية، وأطاحت بالعلم الذى تحول إلى تعصب. وسرعان ما اقترن بالإرهاب والفتن الطائفية التى بدأت من سنة 1972 نفسها. وكان من الطبيعى أن ينتهى الأمر باغتيال السادات فى أكتوبر 1981 وتعيين نائبه حسنى مبارك رئيسًا للجمهورية، وتشهد مصر امتداد حكم السادات على نحو أكثر ملاءمة للأوضاع الجديدة. أعنى الأوضاع التى تمثلت فى مجيء اليمين الجديد للحكم فى الولاياتالمتحدة مع انتخاب رونالد ريجان لرئاسة الجمهورية، وصعود اليمين الأمريكى ليسيطر على الحكم فى الولاياتالمتحدة التى سرعان ما دعمت إسرائيل فى إفشال مشروع الملك فهد لحل النزاع العربى الإسرائيلى فى مؤتمر القمة العربى الثانى عشر فى «فاس» نوفمبر 1981، وذلك مقابل إقرار الكنيست الإسرائيلى لمشروع بضم مرتفعات الجولان لإسرائيل فى ديسمبر 1981. هذه الأحداث المتلاحقة المتتابعة هى الأحداث التى عاشها أمل دنقل وعشناها معه فيما يمكن تسميته بسنوات الجمر التى تحولت فيها مصر من حال إلى حال، وذلك على نحو فرض على أمل دنقل نفسه أن يمضى بقصيدة الرفض إلى غايتها القصوي، وهى الغاية التى نرى تدرجات الطريق الصاعد إليها ما بين دواوينه الثلاثة: «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، و»تعليق على ما حدث»، و»العهد الآتي». وهى الدواوين الأساسية التى أصدرها فى حياته، والتى نرى فى قصائدها موازيات رمزية للأحداث الوطنية والقومية التى أعقبت هزيمة 1967 التى صنعت السياق المترتب عليها، والتحولات التى أدت إليها والكوارث التى ارتبطت بهذه التحولات، وهى الكوارث التى كانت تؤدى إلى استمرار حدة الرفض المتصاعد ما بين البكاء بين يدى زرقاء اليمامة والتعليق على ما حدث والعهد الآتي. والعنوان الأخير نفسه هو تمثيل لذروة الرفض التى تستبدل بالعهدين الماضى والحاضر العهد الآتى الذى يمكن أن يكون واعدًا، ولكن ذروة السخرية تتضح حين نرى أنه حتى العهد الآتى لن يأتى بشيء جديد، فهو استمرار للسقوط العظيم الذى هوت فيه الحضارة العربية إلى الحضيض، والذى تحول فيه الحلم القومى إلى الكابوس الفظيع. ومن ثم لم يتبق إلا إرادة المقاومة. وهاأنذا أنظر فى فهرس الأعمال الكاملة لأمل دنقل، فأجد نفسى أسترجع التواريخ التى مررت فيها أو مر فيها الوطن العربى كله بأحداث جسام، كانت قصائد أمل تتحول إلى مرايا أو موازيات رمزية لها، ابتداء من السخرية القاسية من هزيمة عبدالناصر العسكرية فى قصيدة «من مذكرات المتنبي»، مرورًا بموقف المثقفين المتخاذل فى الرفض داخل قصيدة «حديث خاص مع أبى موسى الأشعري» واغتيال المناضلين الذين جرءوا على محاربة بقايا الإقطاع فى «أشياء تحدث فى الليل». وحتى عندما يموت عبدالناصر، يذهب الشعراء لرثائه فى مبنى الاتحاد الاشتراكي، فإن قصيدة أمل دنقل تتحول من مرثية إلى صيحة غضب عنوانها «لا وقت للبكاء» وغايتها هى التبشير بحلم النصر الذى لن يأتى إلا بالعمل والتخطيط والصبر، وعندما يبدأ العهد الجديد بالسادات، تبدأ معه مسيرة جديدة من الرفض للانفتاح الذى تحول إلى أنياب وحشية تنهش الفقراء، وإلى تنازلات متتابعة للقوى التى تظل تناصبنا العداء إلى أن أسقطت أحلامنا الوطنية والقومية والتى بسببها لم يتسلم سرحان مفاتيح القدس، ولم يبق لنا– نحن المهزومين المكسورين- سوى أن نتأمل ما نراه من بقايا «رسوم فى بهو عربي». ونقرأ خاتمة العهد الآتي، كما لو كنا نقرأ خاتمة حياتنا التى نرى فى مستقبلها نهايتنا، فلا نملك سوى أن ننشد مع الشاعر الذى يرثى حاضره ومستقبله قائلًا: «من يقتل أطفالى المساكين؟ لكيلا يصبحوا– فى الغد – شحاذين.. يستجدون أصحاب الدكاكين.. وأبواب المرابين.. يبيعون لسيارات أصحاب الملايين.. الرياحين وفى «المترو» يبيعون الدبابيس و «يس» وينسلّون فى الليل يبيعون «الجعارين» لأفواج الغزاة السائحين! ..................... إنها الأرض التى ما وعد الله بها.. من خرجوا من صلبها.. وانغرسوا فى تربها.. وانطرحوا فى حبِّها.. مستشهدين! .................. فادخلوها «بسلام» آمنين!! والحق أننى حين أتطلع حولى فى أحوال كثيرة فلا أجد أصدق من الكلمات التى قالها أمل عن الأرض التى ما وعد الله بها من خرجوا من صلبها وانغرسوا فى تربها وانطرحوا فى حبها مستشهدين. فهذه الأرض هى الأرض التى أنبتت الجنود الذين صنعوا نصر أكتوبر، وهى التى ظلت رائدة وناشرة إشعاعات الاستنارة على امتداد العالم العربى كله، وهى التى ظلت تقاوم التعصب الديني، وأخيرا هى التى تسلح أبناؤها بالسخرية الرافضة عندما جاءها المد الإسلامي، فقالوا على لسان أبى نواس: لا تسألنى إن كان القرآن مخلوقًا أو أزلي بل سلنى إن كان السلطان لصًّا أو نصف نبي لقد عرفت أمل وصادقته فى مناخ هزيمة 1967، ورأيت معه هزيمة الناصرية بسبب غياب الديموقراطية عن تطبيقاتها الفعلية وبسبب تحالف قوى الاستعمار ضدها، وعشت معه أيام السادات بحلوها ومرها. وكانت هذه السنوات هى سنوات الجمر التى تقلبنا فيها بين طبقات الجحيم باحثين عن خلاص. وللأسف لم يأت الخلاص حتى بعد موت السادات، وظللنا نتطلع إلى العهد الآتي، ونتذكر قصائد أمل ونحلم معه بالعهد الآتي، ولكن الفرق بينى وبين أمل، أن أمل كان أكثر تشاؤمًا منى وكان شأنه شأن من لا يرى أملا فى أى عهد آت، فالعهود كلها تكرر المأساة نفسها، والظلم باق فى تاريخ الإنسانية يتغلل فى نسغها كالسم الذى لا برء منه، ولكنه لم يتوقف عن المقاومة، ومن ثَم عن الرفض؛ لأنه كان يدرك أنه بالمقاومة وبالرفض يجعل لحياته معني، ولوجوده قيمة، وحتى عندما ظهر شعراء السبعينيات بعده وأخذوا يناوشونه الخصام والاختلاف لم يتوقف عن الطريق الذى مضى فيه والذى استمر إلى نهايته شاعرًا مؤمنًا بالشعر، ومعتقدًا بأهمية الدور الذى يلعبه الشعر فى الحياة، خصوصًا فى رفض الفساد ومقاومة الظلم والكشف عن الإمكانات التى تجعل من الحياة إمكانًا للجمال الذى لا يأتى إلا فى لحظات، هى لحظات الفرح المختلس أو فيما يشبه الحلم الذى قد يتحقق فى لحظات استثنائية، لكنه كان فى كل الأحوال واصلًا بين الشعر والحياة، رافضًا أكذوبة الفن للفن أو وهم البحث عن جماليات خاصة مستقلة عن الحياة أو إمكان وجود شعر دون أن يكون وسيلة للمقاومة. فالحياة هى الضرورة، ولا وجود للحرية فيها إلا بالشعر الذى لا يخشى حتى من العسس أو أشباه العسس فى كل زمان ومكان؛ ولذلك بقى شعره رغم تغير الزمان والمكان، وسيظل هذا الشعر باقيًا رغم ارتباطه بأحداث عصره وسنوات الجمر التى عاش أمل وقائعها وعشتها معه مكتويًا بنارها، خصوصًا بعد أن تعلمت منه أن كل شيء يحمل نقيضه، وأنه فى أحلك أوقات الظلم ينبثق إمكان النقيض الذى يشير دائما إلى عهد لا بد أن يأتي، حتى لو كانت الريح مشدودة بالمسامير، وحتى لو كانت العصافير مرصودة بالنواطير!