يسطع الجانب السياسى بارزًا فى شعر أمل دنقل، ولكن المضامين السياسية لم تكن نابعة من انتماء إلى حزب سياسي، فهو وإن لم يكن معاديًا للسياسة الناصرية، لم يكن ناصريًا حزبيًا وعلى الرغم من اتجاهه القومى البارز لم يكن منتميًا إلى الحزب الناصرى الواحد، ولا إلى حركة البعث العربي. فلم تكن السياسة فى شعره شعارات أو بيانات أو برامج أو انعاكاسات مباشرة لوقائع صراع اجتماعي؛ أى لم تكن سياسة صرفة، بل كانت رؤية شعرية مأساوية لواقع يراه دميمًا فى آخر المرحلة الناصرية أو فى عصر السادات حينما ساد الحديث عن عدم التصدى للثور الأمريكى الهائج، وتقديم التنازلات له وقبول مبادرة روجرز، وعن السماح بدور للرأسمال الغربى فى التنمية الاقتصادية وتمت بالفعل مواصلة إلغاء المعارضة السياسية والديمقراطية عمومًا واستمرار القمع والتعذيب للرأى المخالف. وكان ديوان «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» عام 1969 إدانة للعالم الذى أدى إلى هزيمة 1967، وكان ديوان «تعليق على ما حدث» (عام 1971) استمرارًا للديوان الأول وديوان «العهد الآتي» فى عام 1975 وأخيرًا ديوان «الغرفة رقم 8» عام 1983 معجونة كلها بحركة الحياة والتاريخ، وتترقرق فيها قضايا المصير الإنساني. ولم توافق الرقابة المصرية على البكاء بين يدى زرقاء اليمامة وقبله قصيدة كلمات سبارتاكوس الأخيرة. وبدأ المرض اللعين يفتك بجسم أمل النحيل. ولكن الشاعر الذى يمثل ضمير مصر والضمير العربى الإنسانى ظل شديد العنفوان. وبعد وفاته يحمله كثير من الشعراء والنقاد والقراء والمواطنين داخلهم، ويحمله الثوريون فى ميدان التحرير وفى كل ميدان، وتتحول قصائده إلى أناشيد ورسوم على الجدران، وهى قصائد وصلت بالمحتوى القومى للشعر إلى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية. فهو يختار رموزه من التراث العربى وأقنعته من الشخصيات التراثية، وهى قادرة على تحريك اللاشعور القومى للجماهير العربية: زرقاء اليمامة، حديث خاص مع موسى الأشعري، ومن مذكرات المتنبى فى مصر. وقد قربه البعد السياسى القومى من الجمهور وجعله حريصًا على البعد الإنشادى للقصيدة؛ الشاعر أمل دنقل يكتب القصيدة لكى يلقيها فى محفل جمعى رموزها قريبة من وجدان الجماهير وصورها الشعرية بسيطة ومقاطعها قصيرة حادة تتكامل وتجسد اللحظات الجوهرية فى الواقع. إن المضامين السياسية عنده كانت نابعة عن رؤية مستقبلية متخيلة لواقع بعيد حذر الشاعر منه، واقع بغيض مأساوى سيتفاقم. وليس شعره القومى استنامة للتراث واجترارًا للماضي، ولا يهدف إلى تقديم حكمة أو موعظة حسنة. وليست لغته الدقيقة معجمية بل سياقية الدلالة درامية التأثير تعبر بالجزئى عن الكلى وبالكلى عن الجزئى وبالمرئى عن اللا مرئي، وبالصورة والمفارقة والرمز والأسطورة وتسعى لتحويل الحلم إلى واقع والواقع إلى كابوس. وتسهم القافية التى يحرص عليها فى تثوير الوعى وإرادة الفعل. إن الشعرية عند أمل لا تحيط المجال الشعرى بسور يفصله عن قوى وطاقات الحياة خارجها، أو عن الدوائر الثقافية الأخري. فالشاعر عند أمل إنسان يخاطب بشرًا ويتحدث معهم، فالشعر عنده نوع من الكلام. وعلى الرغم من الفروق بين الشعر والكلام العادى فهناك تشابهات أساسية بينهما ولا ينقل الكلام العادى المتبادل إعلامًا أو يتسم بالنزعة العملية بل يتعلق بالمشاعر والمواقف، بل يصبغ الإعلام بالخبرة الخاصة وتتلون العبارة بانفعال المتكلم، فالشعر عند أمل لغة متخصصة تستهدف الوضوح والدقة إزاء المواقف والمشاعر والتفسيرات، أى هو شكل من أشكال التخصص فى الكلام العادي، كما لا يختلف عن شواغل الحياة العادية اختلافًا جوهريًأ. إن الشعر الخالص ليس شيئًا قائمًا بذاته بل هو تخصص نوعى لعادات التفكير والشعور الشاملة. إنه لا ينقل نصائح وتوصيات طيبة فحسب، فالنثر العادى ينقلها بدقة أكبر من الشعر الرديء الذى ترد فيه. ولا تكفى عند أمل الفكرة الجيدة لخلق القصيدة، فالشعر من ناحية الكثافة الانفعالية لا يمكن له أن ينافس الخبرة الواقعية، فمذاق التجربة وعبيرها أعمق كثافة من أى شعر يصفها، ولكن التجربة أو الخبرة فى قصيدة أمل تتضمن موقفًا وتفسيرًا فالتأثير الشعرى ينجم فى شعر أمل عن بناء القصيدة المعماري، وبالإضافة إلى ذلك هناك التنظيم الدرامى لأى قصيدة حتى أكثر قصائده الغنائية. إن أشعارالرفض عند أمل دنقل تعطينا معرفة بأنفسنا وبواقعنا فى علاقاتنا بعالم الخبرة والتجربة مصورة بلغة القيم الإنسانية ولا تتألف تلك المعرفة من قضايا منطقية أو رسالات سامية أو أجزاء من مذاهب سياسية بل تعتمد اعتمادًا كبيرًا على التشكيل الشعري. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى