فى مشهد تاريخى وطأت قدما الرئيس السابق باراك أوباما أرض العاصمة الكوبية هافانا فى 2014، ليصبح أول رئيس أمريكى يزور كوبا منذ 1928، معلنا نهاية 54 عاما من العداء. ولكن تأتى الانتخابات بما لا تشتهى الأنظمة، فقد تحول هذا المشهد السابق إلى جزء من حلم شرع الرئيس دونالد ترامب بالفعل فى تدميره، معلنا عودة عقارب الساعة إلى الوراء ومستعيدا كافة أجواء الحرب الباردة مع كوبا. ولكن هل تعيد سياسة ترامب الجديدة كوبا إلى صفوف الأعداء، بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى صفوف الحلفاء، أم أنها مجرد زوبعة فى فنجان الهدف منها الوفاء بأحد وعوده الانتخابية .. ولو صوريا؟ فى البداية، لابد من الإشارة إلى أن توجهات أوباما للتطبيع مع كوبا كان الهدف الرئيسى منها هو التخلص من طوفان الهجرة غير الشرعية القادم من الجنوب، وفتح المجال الجوى والسياحى أمام الأمريكيين الراغبين فى زيارة كوبا، وتخفيف العقوبات الاقتصادية ، وذلك فى مقابل أكبر عملية تبادل سجناء، وإزاحة كوبا من على قائمة الإرهاب الأمريكية، وهو ما يعنى فى النهاية خضوع كوبا للسيطرة الأمريكية، وتحويل عدو الأمس إلى حليف قوى يدين بالولاء لأمريكا التى أخرجته من عزلته إلى النور. وكانت هافانا قد قابلت الطلبات الأمريكية بالترحاب الشديد واعتبرتها مبادرة مصالحة طال انتظارها، ولم يلتفت أوباما حينذاك لاحتجاجات الأقليات ذوى الأصول اللاتينية «الهيسبانيكس» على فكرة التطبيع مع كوبا، ومضى قدما فى محاولة استقطاب هذا العدو القديم، وبالتالى تفتيت القوى اليسارية المعادية للولايات المتحدة فى الجنوب، وإحكام السيطرة على المنطقة. ولكن نزعة ترامب لتدمير ميراث سلفه الديمقراطى والظهور فى صورة الرئيس الملتزم بتنفيذ وعوده الانتخابية، تسببت فى إفساد خطط السيطرة الأمريكية، بل وتضمنت انتهاكا للخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأمريكية التى أعلنها ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكى من قبل، والتى تعهدت واشنطن خلالها بعدم فرض معاييرها ومبادئها فيما يتعلق بحقوق الإنسان أو غيرها من الشئون الداخلية على الدول الأخرى. ولكن يبدو أن إدارة ترامب قررت استثناء الجانب الكوبى من هذه السياسة، فقد انتقد ترامب بشدة – فى خطابه أمام حشود من اللاجئين فى ميامى بفلوريدا - انتهاك حقوق الإنسان فى كوبا وقمع الحريات ومنع الأفراد الأمريكيين من التعامل مع الفنادق والمطاعم فى هافانا التى تديرها القوات المسلحة الكوبية، المسئولة عن قطاع السياحة فى البلاد. والطريف فى الأمر أن خطاب ترامب الرنان لم يسفر عن إجراءات بنفس درجة القوة التى حملتها لهجته الخطابية، فلم يذهب ترامب إلى حد إلغاء الاتفاق التاريخى الذى أبرمه أوباما، لكنه اكتفى بالتراجع عن بعض النقاط الموجودة أو إضافة بعض القيود عليها، وأهمها، منع السائحين الأمريكيين من التعامل مع المنشآت السياحية الكوبية التى يديرها الجيش، إلا أنه لم يمنع خطوط الطيران أو السفن السياحية الأمريكية من التوجه إلى كوبا، ولم يغلق سفارة واشنطن فى هافانا ولم ينزل العلم الأمريكى الذى يرفرف فى سماء كوبا. كما أن أوباما كان قد وضع حدا لسياسة استقبال المهاجرين المعروفة باسم «قدم مبتلة .. قدم جافة»، والتى يسمح بمقتضاها باستقبال اللاجئين الكوبيين الذين يصلون إلى السواحل الأمريكية، وهو بالطبع الإجراء الذى لم يجرؤ ترامب على المساس به. إذن، فعلى الرغم من نبرة ترامب العدائية واستهجان هافانا الشديد من تهديدات الرئيس الأمريكى ولهجته المتعالية، فإن الواقع يشير إلى أن القيود التى يفرضها ترامب على السائح والمستثمر الأمريكي، لم تلغ الانفتاح الذى أعلنه أوباما قبل أعوام على الدولة العدو القديم. والأدهى من ذلك، أن السياسة الجديدة التى أعلنها ترامب ليست مكتوبة حتى الآن، ولذلك فلن تدخل حيز التنفيذ على الفور، وكل ما فى الأمر أنه أعطى التوجيهات لإدارته للشروع فى وضع هذه السياسة الجديدة التى ستقوم عليها المفاوضات المرتقبة بين الطرفين الكوبى والأمريكي، لذلك، فإن كل الضرر سيقع على شركات السياحة الأمريكية والمستثمرين الأمريكيين الذين بدأوا بالفعل فى التوجه إلى كوبا. إن خطاب ترامب دعائى أكثر منه تنفيذي، ومن الواضح أنه يهدف إلى تحسين صورته أمام ناخبى فلوريدا الذين منحوه ثقتهم وأصواتهم قبل أشهر قليلة، والأهم هدم ميراث أوباما، بغض النظر عن مدى أهميته للمستثمر الأمريكى أو لحل أزمة الهجرة الملحة أو حتى فتح أسواق جديدة أمام شركات التكتولوجيا والاتصالات ، ومن ثم السيطرة الفكرية والثقافية على دول الجنوب المتمردة. .. فهل سيسمح الكونجرس بمثل هذه المهمة التدميرية؟