«لقد بدت نادمة، اعتذارية، مدركة لعواقب فعلها.. لكن ليس على ركبتيها».. هكذا لخص أحد أعضاء «لجنة 1922» النافذة فى حزب المحافظين البريطاني، أول لقاء بين أعضاء اللجنة ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى بعد «فوزها المهين» فى الانتخابات البرلمانية، والذى أدى لخسارة «المحافظين» الأغلبية فى مجلس العموم ودفعهم مضطرين لبحث خيارات التحالف مع أحزاب أخرى لضمان بقائهم ك «حكومة أقلية» بعدما كانوا يحكمون بالأغلبية المطلقة قبل أن تقامر ماى وتدعو لإنتخابات مبكرة، فوجئ بها الأغلبية المطلقة من أعضاء الحزب. خلال الاجتماع قالت ماى إن بقاءها كرئيسة للوزراء «مرهون باستمرار رغبتكم فى بقائي» فى استسلام واضح منها للنتيجة التى لا مناص منها وهى أن زعامتها على رأس الحزب والحكومة «انتهت». فأعضاء اللجنة، الذين يلعبون دوراً كبيراً فى اختيار رئيس الحزب وبالتالى رئيس الوزراء، أخبروها أنها ستبقى فى منصبها «فى المدى المنظور»، لكن قراراتها ستتخذ بعد التشاور مع قيادات وأعضاء الحزب. كما أجبروها على الاعتذار علناً لنواب حزب المحافظين الذين خسروا مقاعدهم بسبب حملتها الانتخابية السيئة والمانفسيتو القاتم الذى قدمته للناخب البريطاني. وأخيراً أجبروها على فصل أهم مستشارين لديها وهما فيونا هيل ونيك تيموثي، اللذين يعملان معها منذ كانت وزيرة للداخلية. ولشخصية مغرمة بالقرارات المنفردة مثل تيريزا ماي، فإن تقييد يديها بهذا الشكل «كابوس» يجب أن تعيشه وتذوق مرارته لدفع ثمن ما وصف ب«أسوأ قرار استراتيجي» فى تاريخ زعماء حزب المحافظين. فلم يحدث أن فقد زعيم كل رأسماله السياسى فى ستة أسابيع فقط من قبل. تداعيات سقوط ماى المدوى ستكون وخيمة العواقب عليها شخصياً، وعلى حزب المحافظين، وعلى بريطانيا وهى تستعد لمفاوضات مغادرة الاتحاد الأوروبي. فقد ظهرت ملامح الشلل والضعف فوراً فى تشكيلة الحكومة الجديدة. إذ أبقت ماى على كل الوزراء تقريباً، حتى من أرادت الإطاحة بهم من قبل مثل وزير الخزانة فيليب هاموند، ووزير الخارجية بوريس جونسون. فهى فى حالة من الضعف لا تسمح لها بخلق أى أعداء جدد. وفى أول اجتماع للحكومة، جلست ماى وسط وزرائها مثل «سجين» محاصر من كل جانب. فالبعض اخبرها ان إستراتيجية البركسيت يجب ان تتغير، والبعض أخبرها أن التقشف والاستقطاعات الكبيرة من الميزانية يجب أن تتغير. والبعض الآخر أخبرها أن «اسلوبها الرئاسي» فى القيادة مرفوض ويجب ان يتغير. تقييد يد ماى لم يظهر فقط فى مطالب أعضاء حزبها، بل فى مطالب الحزب الديمقراطى الوحدوى الإيرلندي، الذى يتمتع ب10 مقاعد فى مجلس العموم البريطاني، وتتفاوض ماى معه لدعمها فى حكومة أقلية. فزعيمة الحزب الوحدوى الإيرلندي، ارلين فوستر، تريد ثمناً مقابل دعمها حكومة ماى فى مجلس العموم. على سبيل المثال تريد زيادة فى الميزانية المخصصة لإيرلندا فى الميزانية العامة البريطانية. كما تريد تعديلات فى إستراتيجية البركسيت، تضمن «خروجاً ناعماً» وضمان بقاء الحدود المفتوحة بين ايرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا بعد البركسيت. وماى مضطرة للاستجابة لكل هذه المطالب برغم أن التحالف مع الحزب الوحدوى الإيرلندى لن يكون مغامرة خالية من المخاطر، فهو فى نظر البعض «تحالف فرانكنشتاين». فالحزب الوحدوى الإيرلندى باجندته الاجتماعية المحافظة جداً يقف على النقيض من حزب المحافظين اليوم، الذى دفعه رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون لأرضية يمين الوسط بالكثير من الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية. كما أن ماى مطالبة بتقديم تنازلات لأحزاب المعارضة فى البرلمان، سواء فيما يتعلق بالميزانية والتقشف أو استراتيجية البركسيت كى تضمن التصويت بالثقة فى حكومتها أمام البرلمان. فجيرمى كوربن زعيم حزب العمال دعا لبركسيت «يحمى الوظائف» بمعنى أن يكون التركيز على شروط خروج لا تؤثر سلباً على الوظائف. و»الأحرار الديمقراطيون» و»الخضر» و»القومى الاسكتلندي» يدعون لبركسيت «برجماتى لا ايديولوجي»، مشددين على رفض الخروج من السوق الموحدة. فيما دعا وزير الخزانة فيليب هاموند إلى «بركسيت يركز على الأعمال» فى إشارة إلى شروط خروج لا تؤثر على مكانة لندن كعاصمة مالية لأوروبا. بينما دعا رئيسا الوزراء المحافظين السابقين جون ميجور وديفيد كاميرون إلى «بركسيت توافقي» بالتنسيق مع باقى الأحزاب. وحتى صقور حزب المحافظين يعترفون أن هذا «وقت التنازلات». فوزير شئون الخروج من الاتحاد الأوروبى ديفيد ديفيز اعترف عقب الانتخابات أن «بعض وعود المانفيستو يجب التخلى عنها الأن بسبب الموقف الضعيف» الذى باتت عليه حكومة المحافظين، موضحاً أنه منفتح على فكرة التعاون مع حزب العمال المعارض من أجل استراتيجية وطنية موحدة للبركسيت. وفى المحصلة، قبل أن تتوجه ماى يوم الأربعاء المقبل لمجلس العموم لتقدم حكومتها الجديدة وبرنامجها أمام البرلمان لنيل الثقة، سيكون البرنامج الذى ستقدمه «لا علاقة له» بالمانيفستو الذى دخلت به الانتخابات وخسرت الأغلبية. وكما تقول إحدى عضوات حزب المحافظين ل«الأهرام»:«ستقدم تيريزا ماى برنامج مقتضبا ومختصر جداً للحكومة كى تضمن ألا يجد اعتراضات كبيرة فى مجلس العموم». كل هذا يعنى شيئا واحد وهو أن استراتيجية ماى للبركسيت «ماتت» وعليها الأن وبسرعة أن تضع استراتيجية بديلة جديدة توافقية تنال دعم أحزاب المعارضة والأطياف المتصارعة داخل حزب المحافظين. لكن هذا لن يكون سهلاً وسيأخذ وقتاً. وهذا يقلق الإتحاد الأوروبي. فإذا كانت إستراتيجية البركسيت غامضة قبل الانتخابات، فإنها اليوم أكثر غموضاً بعد الانتخابات. كما أن جدولها الزمنى فى مهب الريح. فإلى أن تتفق ماى مع حزبها والحزب الوحدوى الإيرلندى وباقى أحزاب المعارضة لن يمكنها التفاوض بجدية مع بروكسل. القلق والاستياء الاوروبى عكسه كبير مفاوضى الأتحاد الأوروبى ميشال بارنييه الذى أشتكى قائلاً «لا يمكننى التفاوض مع نفسي»، داعياً رئيسة الوزراء وفريقها إلى بدء التفاوض حول شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وعبر بارنييه عن قلقه من «الوقت الضائع» الذى يهدد الجدول الزمنى للمفاوضات، قائلا فى حوار مع صحف أوروبية «الأسبوع المقبل سيكون قد مر ثلاثة أشهر منذ أرسلت بريطانيا خطاب تفعيل المادة 50 لمغادرة الاتحاد الأوروبي. لم نتفاوض ولم نتقدم خطوة... الوقت يمر بسرعة كبيرة. يجب أن نبدأ هذ المفاوضات». وتابع «لا أرى جدوى أو مصلحة فى تأجيل المحادثات. كل تأجيل إضافى هو مصدر عدم استقرار للأقتصاد وقطاع الأعمال نحن فى غنى عنه». ثم ترك بارنييه الباب مفتوحاً أمام تيريزا ماى للتراجع عن «بركسيت خشن»، قائلاً «لا أدرى ما هو البركسيت الخشن ولا ما هو البركسيت الناعم. أمس قرأت تعبيرا جديدا وهو البركسيت المفتوح. البركسيت هو قرار بريطانيا، ونحن سنطبق ما تطلبه» بريطانيا. لتمرير حكومتها فى البرلمان الأسبوع المقبل، سيكون على ماى إرضاء الكثير من الأعداء والأصدقاء فى نفس الوقت. وهذا صعب جدا. وحتى إذا مررت الحكومة وسط تلك التجاذبات الصعبة وفى مرحلة مفصلية من تاريخ بريطانيا تشهد خروجها من أوروبا، فإن بقاء الحكومة فترة طويلة محل شك كبير. فخلال الأجتماع مع «لجنة 1922» النافذة قالت ماى معتذرة «أنا ادخلتكم فى هذه الفوضي. وأنا سأخرجكم منها». ومن أن لا أحد يصدقها، إلا أن الحزب لا يستطيع أن يقامر بإقصائها الآن. فجيرمى كوربن فى دهاليز ويستمنستر ينتظر سقوط حكومة المحافظين، على أمل إجراء انتخابات عامة جديدة مبكرة. ومع تقدم حزب العمال لأول مرة 6 نقاط فى استطلاعات الرأى العام، لا يملك حزب المحافظين خيار إطاحة ماى فوراً. وحتى منافسى ماى فى الحزب وعلى رأسهم بوريس جونسون الذى يعد الدقائق للقفز مكانها يدرك أن التوقيت ليس مناسباً الآن. ففى رسالة على «واتس اب» لأعضاء حزب المحافظين قال جونسون «أهدأوا...الشعب فاض به الكيل من السياسة والسياسيين ولا يريد انتخابات أخرى». التوقيت هو كل شىء فى السياسة البريطانية. وجونسون سيسعى لإطاحة ماى لكن ليس الأن. فوجودها على رأس الحزب ما زال مطلوباً. لكن إلى متى؟ لا أحد يدري. حتى هى شخصياً. لقد سقطت ماى بسرعة مذهلة، وهناك حالة من الغضب العارم الداخلى ضدها فى الحزب بسبب الطريقة التى أدارت بها الحملة الانتخابية، والأشخاص الذين وثقت فيهم، وبرنامج الحزب الذى حددته دون تشاور مع أعضاء الحزب. وتقول عضوة حزب المحافظين ل«الأهرام»: «لقد تم إبقائها كزعيمة للحزب فى الوقت الراهن لأن الحزب يأمل باستماتة ألا يجر لإنتخابات مبكرة جديدة». وتماشياً مع سمعة الحزب الشرسة فى التخلص من زعمائه الضعفاء، هناك توافق على أنه بحلول الانتخابات المقبلة، أياً كان موعدها، فإن ماى لن تكون على رأس الحزب. هذا وضع لخصه المعلق السياسى البريطانى اللاذع مارك مارديل بقوله إن ماي: أشبه بملكة، احتجزها بارونات قصرها فى قلعة من قلاع العصور الوسطى، بعدما جردوها من صلاحياتها ومستشاريها المقربين، وهى سجينة وضعيفة تلبى مطالبهم.