أين اختفت تيريزا ماي؟ هل هى هودينى الساحر؟ لماذا لم تظهر فى مناظرة تليفزيونية للانتخابات العامة التى دعت إليها هى شخصيا؟ هل تشعر ماى بالخوف من الظهور فى مناظرة مع زعماء أحزاب المعارضة؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف ستقف فى وجه قادة الاتحاد الأوروبى فى مفاوضات خروج بريطانيا (بركسيت)؟. لم ترحم وسائل التواصل الاجتماعى رئيسة الوزراء البريطانية بسبب قرارها عدم المشاركة فى مناظرة تليفزيونية تضم قادة أحزاب المعارضة قبل أيام من الانتخابات العامة المقررة 8 يونيو (حزيران) الجاري. فقد انهالت عليها الاتهامات من كل جانب. فهى إما واثقة أكثر من اللازم أو خائفة أكثر من اللازم، مع ترجيح الخيار الثانى بعدما أظهرت أخر استطلاعات الرأى أن «حزب العمال» بقيادة جيرمى كوربن قرب الفارق بينه وبين ماي. فأخر استطلاع أجراه مركز «يوجوف» لقياس الراى العام، منح «حزب المحافظين» 42%، مقابل 39% للعمال، متوقعاً أن يخسر حزب المحافظين الحاكم نحو 20 مقعداً، ما يعنى فقدانه الأغلبية الضئيلة التى يتمتع بها فى البرلمان الذى تم حله لإجراء انتخابات مبكرة، وبالتالى «برلمان معلق» وحكومة إئتلافية ضعيفة. وإذا ما صدقت استطلاعات الرأى العام، وخسر حزب المحافظين بقيادة ماى الأغلبية فى البرلمان، سيكون قرارها بالدعوة لإجراء انتخابات مبكرة واحد من أسوأ قراراتها على الاطلاق. فما الذى حدث فى الأسابيع الثلاثة الأخيرة ليتقلص الفارق بين «العمال» و«المحافظين» من 24 نقطة، عندما دعت ماى لإجراء الانتخابات فى ابريل الماضي، إلى 3 نقاط الان قبل أسبوع من الانتخابات؟ هناك عدة عوامل يمكن تلخيصها فى الأتى: -للخلف در: فرئيسة الوزراء اضطرت إلى التراجع والنكوص عن وعود انتخابية فى مانفيستو حزب المحافظين حول خطط الرعاية الاجتماعية ما جعل صورتها تهتز بشدة. والصورة «كعب أخيل» تيريزا ماي. فهى جعلت هذه الانتخابات حول «قوة القيادة» وتراجعها عن سياسات خلال 48 ساعة من صدور مانفيستو الحزب، جعل الكثيرين يعيدون النظر اليها، متشككين فى أنها تلك الشخصية «القوية القادرة الحازمة». -لا منح مجانية: على النقيض من جيرمى كوربن الذى وعد بزيادة الانفاق على نظام الرعاية الصحية، وإعادة تأميم المواصلات العامة والاستثمار فى البنية التحتية، وإلغاء الرسوم الجامعية على الطلاب، وزيادة الانفاق على المدارس، لم تعد ماى بأى منح مجانية. وبرنامج حزب المحافظين ربما «واقعى أكثر من اللازم» بالنسبة للناخبين. فماى تعلم أن الوضع الأقتصادى لن يكون سهلاً مع بدء مفاوضات البركسيت. وتعلم أنه لن يكون هناك «مغارة على بابا» تنهل منها الأموال لتنفق على برامج الرعاية الصحية أو البنية التحتية وبالتالى جاء برنامجها «قاتماً» بلغة التقشف والانفاق العام. على النقيض منها، وعد جيرمى كوربن الناخبين ب»مغارة على بابا». وبرنامجه يعنى أن بريطانيا ستضطر للإستدانة لتمويل برنامج انفاق حكومى كبير جداً، ما يعنى زيادة عبء الديون. ومع أن الكثير من وعود كوربن شعبوية أكثر من اللازم، وبعضها غير قابل للتحقيق، مثل إعادة تأميم المواصلات مثلا، إلا أن الناخب البريطانى كما تظهر استطلاعات الرأى يفضل رؤية كوربن ووعوده على رؤية ماى ووعودها. وفوز كوربن ببرنامج غير واقعى لن يكون مفاجأة. فالرئيس الامريكى دونالد ترامب فاز ببرنامج غير واقعى أيضا. -اين البركسيت؟: عندما دعت ماى لإجراء انتخابات مبكرة كان مركز الكون فى بريطانيا هو «البركسيت». لكن هذا يبدو من الماضى الآن. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، أستطاعت أحزاب المعارضة جعل هذه الانتخابات حول الأقتصاد والرعاية الصحية والبنية التحتية والضرائب والمعاشات. فجيرمى كوربن مثلا يتجنب تماما الحديث عن البركسيت. وفى البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية، ليس هناك تركيز كبير على البركسيت. وخلال المناظرة التلبفزيونية هذا الأسبوع بين قادة أحزاب المعارضة لم يذكر البركسيت إلا قليلاً. وهذا كارثى بالنسبة لتيريزا ماي. فبرنامج حزب المحافظين «نقطة ضعف» فى كل شئ تقريبا بإستثناء البركسيت. وبرغم أنها قد تكون أفضل من يفاوض نيابة عن بريطانيا مع الأتحاد الأوروبي، إلا أن البركسيت لا يعد حاليا القضية المفصلية فى هذه الانتخابات. وإذا كان لتيريزا ماى أن تحقق «الاكتساح الانتخابي» الذى تأمله، يجب ان تعيد البركسيت لقلب الجدال الانتخابى فى بريطانيا حالياً، لكن هذا لن يكون سهلاً. لكنها ستحاول على أية حال. فقد قررت أن تجعل الأسبوع الأخير قبل الانتخابات «أسبوع البركسيت» حيث ستلقى عدداً من الخطابات على الناخبين حول «البركسيت: المهمة الوطنية الكبيرة»، مشددة على أنها «أفضل من يقود بريطانيا للخروج من الاتحاد الاوروبى». ووسط كل هذا يقف الكثير من الناخبين فى حيرة بالغة. فهذه الانتخابات بالنسبة لهم «أسوأ سيناريو ممكن». فالانتخابات مصيرية لا شك فى ذلك، ومن سيفوز سيقع على كاهل مسئولية قيادة مفاوضات خروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبي. وهى مسئولية هائلة بكل مقياس. فعلى الحكومة الجديدة إعادة التفاوض مع الأتحاد الأوروبى حول 759 إتفاقية تربط بين بريطانيا والأتحاد. وكبير مفاوضى الاتحاد ميشال بارنييه لا يكف عن التذكير أن «بريطانيا لن تخرج بأى مكاسب غير عادلة». لكن المعضلة أن كل المرشحين المحتملين للمنصب لديهم عيوب جوهرية. وتعبر عن تلك الحيرة كلير بيفان، التى تعمل فى بورصة لندن، المدينة التى قد يؤثر عليها البركسيت أكثر من أى مدينة بريطانية أخري. وتقول بيفان، التى لم تحسم بشكل نهائى لمن ستصوت خلال أسبوع، ل»الأهرام» أن تصويتها يجب أن يأخذ فى الأعتبار حماية لندن كمركز مالى بعد البركسيت، لكن أيضا حماية ودعم برنامج الرعاية الصحية وزيادة الأنفاق على التعليم والبنية التحتية وتحسين الخدمات العامة. وتوضح بيفان التعقيدات التى تشعر بها قائلة:»شخصيا لدى مشكلة مع جيرمى كوربن، فقد تعامل بلامبالاة خلال إستفتاء البركسيت يونيو 2016 ولم يبذل جهداً كافياً لإقناع الناخب بالبقاء فى الأتحاد الأوروبي. وهو يبدو اليوم بلا أى خطة فيما يتعلق بمفاوضات البركسيت، برغم ان هذه القضية هى القضية الأكثر أهمية فى هذه الانتخابات. وعود كوربن حول الانفاق على برنامج الرعاية الصحية ومجانية الجامعات وتأميم المواصلات والانفاق على المدارس جذابة جدا. لكن السؤال هو: كيف سيمول كل هذا؟. بالمزيد من الأقتراض والأقتراض والأقتراض. حزب العمال سلك الطريق السهل فى رأى بإنتهاج هذه السياسات التى تبدو مثل العسل والنحل (لذيذة لكن لها ثمن باهظ). هل جريمى كوربن خامة رئيس وزراء؟ فى رأى ان مانفسيتو حزبه لا يشير لذلك. أنه أشبه بزعيم نقابي». وتتابع:»أما تيريزا ماي، فهى بلا شخصية تقريبا. وكلما ظهرت على الملأ أكثر كلما خسرت المزيد من الأصوات. لا عجب أنها قررت الأختفاء فى الأسبوع الأخير من الانتخابات ولم تشارك فى المناظرة. برنامج المحافظين واقعى جدا. فالحكومة مضطرة لمواصلة التقشف. لكن عندما تقدم كل الأحزاب الأخرى وعوداً بالانفاق بلا حدود، يبدو مانفسيتو حزب المحافظين منفراً لكبار السن والشباب والفقراء والطبقة الوسطي. أما حزب الأحرار الديمقراطيين، فيبدو هامشيا الأن. لكنه قد يصبح هام، إذا ما دعت الحاجة لحكومة إئتلافية». لا أحد فى بريطانيا لديه الشجاعة للتنبؤ بنتائج الانتخابات العامة. فبعد فشل مراكز استطلاعات الرأى العام خلال الانتخابات العامة 2015 وإستفتاء الخروج أو البقاء فى الأتحاد الأوروبى 2016، بات من الصعب والخطر محاولة التنبوء بطريقة تصويت الناخبين، ومع ذلك هناك شئ شبه مؤكد يمكن التنبؤ به بدون الكثير من المخاطرة وهو أن «الاكتساح الانتخابي» الذى كانت تيريزا ماى تأمله لن يتحقق. والمعضلة كما تراها كلير بيفان ببساطة هى أنه «لا أحد بقامة اللحظة». فالبركسيت أكبر تحدى يواجه بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك ليس بين سياسيين بريطانيا من فرض نفسه بوصفه قادراً على القيادة فى تلك الفترة العصيبة والمصيرية. فليس هناك تشرشل جديد أو مونتجمرى جديد. والنتيجة أن تلك الانتخابات وبدلاً من أن «تقوى ظهر» الحكومة المقبلة فى المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي، فعلت العكس تماماً. فرئيس الوزراء المقبل، سواء ظلت ماى أو جاء كوربن فى إطار حكومة إئتلافية، سيكون أضعف كثيراً مما كانت تأمل الطبقة السياسية فى ذلك البلد. ولابد أنه فى مكاناً ما فى أوروبا يجلس قادة الأتحاد الاوروبى وعلى وجوههم ابتسامة عريضة.