يتأثر السياسيون فى العادة بمهنهم السابقة. فالإنسان هو ناتج تجارب التفاعل مع الطبيعة والمجتمع. والمعرفة - أياً كان نوعها - ليست ناتج العقل فقط، بل تفاعل العقل مع الحقيقة المادية، سواء كانت المجتمع أو الناس، الأرقام أو ألأثقال، الطب أو الأمراض. وهكذا فالسياسيون من خلفيات عسكرية يمارسون المواجهة والمفاجأة والتضليل والخداع.. أما أولئك من خلفية قانونية فهم يَرَوْن المجتمع من خلال شبكة القوانين الرادعة، والتشريع يحفظ الحقوق والمصالح. أما السياسيون من الجراحين والأطباء فهم يتعاملون مع القضايا السياسية والمجتمع من خلال اكتسابهم المعرفة المادية من قوانين الجسد. فهناك من الأمراض ما يستدعى الصبر وعدم التدخل، فهم يدركون أن لكل تدخل مضاعفات، ولكنهم أيضا يوقنون ان التدخل بالجراحة حتمى مع بعض العلل والأمراض؛ ولولا ذلك ما نشأ تخصص الجراحة ذاته. وهناك تشابه بين المعضلة الإيرانية وتغير نهج أمريكا فى التعامل معها مع أحاجى الطب والجراحة. فإيران وحلفاؤها (من سوريا لحزب الله) حلف ذو قدرات عسكرية لا يمكن تجاهلها، ويمتد تأثيره من كابول وقلب آسيا إلى شمال إسرائيل، عبوراً بحقول النفط الثرية فيما بينهما. وتتمثل تلك القدرات العسكرية فى تكنولوجيا الصواريخ، وهذه لا يوجد رادع فنى أو علمى لها حتى الآن. فصواريخ حزب الله قصيرة المدى قادرة على إصابة إسرائيل فى دقائق. أما القدرات الإيرانية فهى تتعدى الصواريخ الإيرانية طويلة المدى عربية الأسماء كورية المنشأ. فإيران ليست فقط قادرة على تهديد الخليج كله، إنما هى تتحدى الولاياتالمتحدة فى أفغانستان من خلال شبكة من العلاقات المعقدة، فأفغانستان جار مباشر لإيران. وقد مثّل مشروع الفوضى الخلاقة خلاصاً ذكياً من مشاكل المجابهة المباشرة ومضاعفاتها وثمنها الباهظ. وهكذا فلقد امتد المشروع وتوسع وصار قاب قوسين أو ادنى من تفكيك الحلقات المترابطة بين طهران ودمشق وبيروت. استند المشروع للمرتزقة المسلمين الذين يمكن تجنيدهم عبر الشرق كله. هذا (التمرين المشهور) تم استخدامه فيما سبق فى أفغانستان.. فمن خلال المرتزقة المسلمين تم إسقاط حكم الاشتراكيين الأفغان وإسقاط الاتحاد السوفيتى معهم. كانت تجربة أفغانستان مثالاً واضحاً قابلاً للتكرار. فالمرتزقة المسلمين المنقولين براً وبحراً وجواً إلى سوريا أنهكوها، ولم يكن باقياً على انهيار سوريا إلا استقرار حكم الإخوان المسلمين فى مصر، حتى تصطف الأفلاك والأقمار للإطاحة النهائية بالدولة السورية وبجيشها الذى أسموه شبيحة بشار. كان استقرار حكم الإخوان المسلمين فى مصر سيمثل نقلة نوعية كبيرة فى دعم فيلق المرتزقة المقاتلين فى سوريا، مما كان سيتلوه من انهيار متكامل وسريع يفكك منظومة الصواريخ السورية وشقيقتها لدى حزب الله. ولكن ثورة المصريين فى 30 يونيو لم تكن فى الحسبان، فمن خلالها لم تتعثر عجلات مشروع الفوضى الخلاقة فقط، إنما فتحت الأبواب للتدخل الروسى فى سوريا. فلقد كان هذا مستحيلاً دون الثورة المصرية فى 30 يونيو. والدخول الروسى فى سوريا رفع أسقف المواجهة من مواجهات إقليمية غامضة الأطراف، أو تحمل اسم الإرهاب اليتيم إلى مواجهة عالمية بين الحلف الروسى الصينى ضد الغرب. مواجهة جلبت حقائق عصرية جديدة للعالم: فلقد صار (العري) الإليكترونى لنيويورك ولندن وباريس حقائق يتذكرها الساسة والعسكريون فى تلك البلاد مع كل هجوم إليكترونى غامض المصدر مجهول الهوية يحمل فى طياته إعلاناً أن (رعباً أكبر من هذا سوف يجيء). والأسلحة الإيرانية والسورية واللبنانية باقية إذن فما هو الحل؟ وما هو التغيير الضرورى الذى يضمن تحقيق الهدف الغربى بشكل وأسلوب آخر؟ الإجابة عن هذا هو ما نشاهده منذ صعود ترامب إلى الحكم فى الولاياتالمتحدة. فصعود ترامب هو تعبير عن تيار وليس فرد. تيار رفض العلاج بعقاقير المرتزقة المسلمين وما صاحبها من مضاعفات أصابت الجسد الغربى والعالمى - متعدد الأعراق والطوائف - بحمى عمليات الإرهاب المصحوب بتصاعد حرارة العنصرية فى أوروبا. فترامب ومشروعه إذن هو إقرار بفشل وبضرورة تغيير أسلوب العلاج؛ ففى نظرهم أن مركز الورم الخبيث هو إيران وأن (نهج أوباما) فى احتواء إيران فاشل، بل وأنه من الضرورى تغيير بؤرة العلاج إلى (إيران أولاً). ومن هنا تأتى التغييرات السياسية الامريكية التى تشابه فى طبيعتها انزلاج طبقات من الأرض فوق بعضها البعض كما يحدث فى الزلازل. تلك التغييرات ليست محسوبة بالكامل وهى فى بدايتها وهناك من الإدارات الأمريكية السابقة من هو نافذ وقوى ويرفضها لأسباب عملية وواقعية. فمن المعروف أن شبكة المنظمات التى قاتلت فى أفغانستان تباينت فى أسمائها من المجاهدين لطالبان لعشرات الأسماء الأخرى لمنظمات حقيقية أو مجرد لافتات. ولكن المحقق والأكيد أن فظائع المرتزقة الأفغان لم تصل إلى قلب أوروبا، ولم تجذب انتباه الرأى العام العالمى كما حدث أخيراً فى سوريا وليبيا ومصر.وهو ما يفرض ضرورة التبرؤ من تلك المنظمات والتباعد عنها، لكن من المؤكد أيضاً أنه ليس من السهل تكوين شبكة متسعة من المرتزقة المسلمين، وليس من السهل تمويلهم سراً وليس من السهل خلق أيديولوجية منحرفة لهم تتم إداراتها عبر شبكة واسعة من الإعلاميين والدعاة. وليس من السهل خلق الضباب الإعلامى الليبرالى واليسارى الضرورى للتغطية على تلك الأنشطة. فكانت (الدوحة) ومازالت غرفة عمليات فى هذا الأمر لا يجاوزها فى خطورتها ودورها إلا تركيا. ويجادل البعض أن قطر (الدوحة) ليست الجزء الأهم أو الوحيد فى تلك المعركة. وهذا صحيح، لكنه ترس مهم وضروري. فهل من المعقول أن يتم التخلى بالكامل عن (غرفة عمليات) وشبكة علاقات أثبتت فعاليتها الفائقة ونجاحها فى الميدان؟ لمزيد من مقالات حازم الرفاعى