اننا الآن في حاجة إلي إمعان النظر في آيات ومواقف تهدينا السبيل, فتعالوا نتوقف لحظات مع قول الله تعالي حاكيا خبر سليمان عليه السلام مع الهدهد وتفقد الطير فقال ما لي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين, النمل: 20] إنها آية عظيمة تحكي حال نبي ملك مع رعيته. وتقدم لكل ذي منصب وولاية علي الناس دروسا في سياسة الرعية والقيام بأمرها, فهذا سليمان عليه السلام كان قائما بالعدل في رعيته, قريبا منهم, لاتمنعه الأبراج العاجية عن تفقد رعيته, ويحكي لنا الموقف القرآني حاله مع رعيته, كل رعيته, إنسا وجنا وطيرا وحيوانا, فكلمة تفقد تشرح معاني العناية والاهتمام والمتابعة الجادة المتواصلة, متابعة تتضمن مساحة للحوار والمناقشة والتماس الأعذار, والاستماع للمبررات والدوافع لكل فعل, وليست متابعة تسلط وتجبر, وذاك الهدهد وأحد جماعة الطير يغيب عن مجلس سليمان فيبدأ النبي الحكيم باتهام نفسه بالتقصير (ما لي لا أري الهدهد؟) ربما أنا الذي لا أراه؟ ربما يكون موجودا وخافيا عن إدراكي؟ ثم يكون حازما في حكمه لئلا يسمح للبقية بالتجاوز والتقصير فيضع العقوبة: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه) ولن يستثنيه من العقوبة إلا إذا قدم الأعذار القوية والحجج الواضحة التي تؤيده (أو ليأتيني بسلطان مبين). بل إن الموقف يمنحنا درسا آخر, وهو ألا يستهين مسئول برأي أحد الرعية مهما بلغت درجة بساطته فقد يملك شأنا ما لا يملكه الأرفعون من رؤية وبصيرة, وهذا ما نلمحه في موقف الهدهد ذي الحجة: (قال أحطت بما لم تحط به, وجئتك من سبأ بنبأ يقين) فهذا موقف يحكي ايجابية الرعية التي لا تتغاضي عن الأخطاء, بل تكون عينا للحاكم وعونا له في رؤية الإصلاح.
ولم ينتظر سليمان عليه السلام أن ترفع إليه التقارير التي قد تكون مزورة أو غير معبرة عن الواقع, بل تابع بنفسه وتفقد وعاين, فكانت تعبيرا عن الإيجابية التي نطلبها في كل حاكم عادل يشعر بمسئوليته تجاه كل كبيرة وصغيرة في بلده. وما أحوجنا إلي حاكم يتفقد الناس فيوفر لهم حياة كريمة, ويرد اليهم كرامتهم المهدرة ويتفقد الذرع والمحاصيل لتكون غذاء صحيا يكفي أقواتهم غذاء لاتفسده المبيدات المسرطنة ويتفقد النهر, فيطهره من ملوثات المصانع ومياه الصرف التي تجني علي ثروته السمكية, ويتفقد الفقراء والمعوزين, والأسواق وتلاعب المحتكرين والغاشين, حاكم يستشعر مسئوليته استشعار عمر رضي الله عنه مسئولية تجاه دابة تتعثر بالعراق فيخشي أن يسأله الله لماذا لم يمهد لها الطريق؟! إن تفقد سليمان الطير رسالة في الإدارة والحكم نحملها لكل حاكم مسئول, ففيها دروس وعبر وعظات, فإن وعوها وتوفر لهم فيها صدق السعي, وقوة الإرادة, والاستعانة بالاكفاء, فإن الله يعينهم عليها, أما ان طغوا وتجبروا فتلك مصائر الظالمين شاهدة علي بأس الله وقوته التي تقصم, وتنزع الملك ممن لم يقم بحقه عدلا وإحسانا. أحمد محمد الدماطي باحث بجامعة المنوفية