الرئيس السيسى يكلف مصطفى مدبولى بتشكيل حكومة جديدة    محافظ بني سويف يعتمد نتيجة الدور الأول للشهادة الإعدادية بنسبة نجاح 76.2 %    مقابلات للمتقدمين على 945 فرصة عمل من المدرسين والممرضات في 13 محافظة    مجلس النواب يوافق نهائيا على مشروع موازنة 2024-2025    ارتفاع جديد.. سعر الحديد اليوم الإثنين 3 يونيو 2024 في المصانع المحلية    حزب الله يستهدف قوات إسرائيلية في جبل عداثر بالصواريخ الموجهة    أوكرانيا: إصابة 5 مدنيين جراء قصف روسي على إقليم دونيتسك    أنطونيو كونتي يقترب من قيادة نابولى    إصابة نجم منتخب إيطاليا بالرباط الصليبي قبل يورو 2024    إحباط تهريب 2.5 مليون قرص كبتاجون مخدر خارج البلاد    تعليم القاهرة تعلن شروط قبول اعتذارات المعلمين عن المشاركة في امتحانات الثانوية العامة    فوز أعضاء أوركسترا شباب مكتبة الإسكندرية في مسابقة المؤتمر الموسيقي للوتريات    الفيلم الفسلطينى "اللِد" يفوز بجائزتي الجمهور في مهرجانين بأمريكا    لمواليد برج الدلو.. ما تأثير الحالة الفلكية في شهر يونيو 2024 على حياتكم؟    السكة الحديد تُطلق خدمات جديدة لركاب القطارات.. تعرف عليها    نقابة المهندسين بالإسكندرية تطلق مبادرة التدريب والشباب في موسمها الثالث    «ابتعدوا عن الميكروفون».. رئيس «النواب» يطالب الأعضاء باستخدام أجهزة القاعة بشكل صحيح    شكري: الممارسات الإسرائيلية تفتقر إلى الالتزام بقواعد القانون الدولي    توقعات باستمرار حركة النقل الجوي في ألمانيا أقل من مستواها قبل جائحة كورونا    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات والانهيارات الأرضية في سريلانكا إلى 12 شخصا    التحفظ على مدير حملة أحمد طنطاوي داخل المحكمة بعد تأييد حبسه    بدء الدراسة في درجة البكالوريوس لكلية العلوم والتكنولوجيا بجامعة أسيوط الأهلية    أفشة: الجلوس على الدكة يحزنني.. وأبو علي هيكسر الدنيا مع الأهلي    منتخب إنجلترا يواجه البوسنة في البروفة الأولى قبل يورو 2024    "مش عايزه".. مدرب ليفربول الجديد يصدم صلاح    بالأسماء.. شوبير يكشف كل الصفقات على رادار الأهلي هذا الصيف    الحكومة تتقدم باستقالتها.. والرئيس السيسي يكلف مدبولي بتشكيل جديد    رئيس «شباب النواب»: الموازنة تأتي في ظروف صعبة ولابد من إصلاح التشوهات وأوجه الخلل    تحرير 94 محضر إنتاج خبز غير مطابق للمواصفات بالمنوفية    السكة الحديد تعلن إجراء تعديلات على تركيب بعض القطارات بالوجه البحري    انهيار منزل ونشوب حريق في حادثين متفرقين دون إصابات بقنا    رئيس بعثة الحج الرسمية: الحالة الصحية العامة للحجاج المصريين جيدة.. ولا أمراض وبائية    «الإسكان»: 220 ألف مواطن تقدم للحصول على شقق «الاجتماعي»    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمنتصف تعاملات اليوم الإثنين    محافظ المنيا: توريد 346 ألف طن قمح منذ بدء الموسم    28 يونيو الجاري .. جورج وسوف يقدم حفله الغنائي في دبي    اتفاق تعاون بين الجامعة الفرنسية وباريس 1 بانتيون سوربون لإطلاق برامج جديدة في مجال السياحة    دعاء لأمي المتوفية في عيد الأضحى.. «اللهم انزلها منزلا مباركا»    الكشف وتوفير العلاج ل 1600 حالة في قافلة للصحة بقرية النويرة ببني سويف    5 خدمات تقدمها عيادة أبحاث الألم بالمركز القومي للبحوث، اعرف المواعيد    «صيادلة الإسكندرية» تطلق 5 قوافل طبية وتوزع الدواء مجانا    "ما حدث مصيبة".. تعليق ناري من ميدو على استدعائه للتحقيق لهذا السبب    هل يجوز للمُضحي حلاقة الشعر وتقليم الأظافر قبل العيد؟.. معلومات مهمة قبل عيد الأضحى    محافظ القاهرة: 1.5 مليار جنيه لرفع كفاءة الخدمات المقدمة إلى المواطنين    الطيران الإسرائيلي يغير على أطراف بلدة حانين ومرتفع كسارة العروش في جبل الريحان    كوريا الجنوبية تعلق اتفاقية خفض التوتر مع نظيرتها الشمالية    علقت نفسها في المروحة.. سيدة تتخلص من حياتها بسوهاج    باحثة ل"إكسترا نيوز": مصر لديها موقف صارم تجاه مخططات إسرائيل ضد غزة    هل يجوز ذبح الأضحية ثاني يوم العيد؟.. «الإفتاء» توضح المواقيت الصحيحة    للتدخلات الجراحية العاجلة.. كيف تستفيد من مبادرة إنهاء قوائم الانتظار؟    تحرك من الزمالك للمطالبة بحق رعاية إمام عاشور من الأهلي    رسومات الأحياء المقررة على الصف الثالث الثانوي.. «راجع قبل الامتحان»    35 جنيها للمادة.. ما رسوم التظلم على نتيجة الشهادة الإعدادية بالجيزة؟    شرف عظيم إني شاركت في مسلسل رأفت الهجان..أبرز تصريحات أحمد ماهر في برنامج "واحد من الناس"    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    محمد الباز ل«بين السطور»: فكرة أن المعارض معه الحق في كل شيء «أمر خاطئ»    مقتل شخص وإصابة 24 فى إطلاق نار بولاية أوهايو الأمريكية    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر الشاعرة
البهاء ‬زهير.. ‬وهو ‬يغنِّي!‬
نشر في الأهرام اليومي يوم 26 - 05 - 2017

إذا ‬كان ‬موضوع ‬هذه ‬المقالات ‬هو ‬مصر ‬الشاعرة ‬فأول ‬من ‬يجسد ‬لنا ‬هذا ‬المعني ‬في ‬الشعر ‬المصري ‬المنظوم ‬باللغة ‬العربية ‬هو ‬البهاء ‬زهير ‬الذي ‬كانت ‬تجربته ‬في ‬الحياة ‬وفي ‬الشعر ‬واللغة ‬تمثيلا ‬لتجربة ‬مصر ‬وتجسيدا ‬لها.‬
البهاء ‬زهير ‬ولد ‬في ‬أواخر ‬القرن ‬السادس ‬الهجري ‬ ‬الثاني ‬عشر ‬الميلادي ‬ ‬في ‬مرحلة ‬من ‬تاريخ ‬مصر ‬وتاريخ ‬المنطقة ‬كانت ‬حافلة ‬بالأحداث.‬
قبل ‬أن ‬يولد ‬البهاء ‬زهير ‬بسنوات ‬قليلة ‬سقطت ‬الخلافة ‬الفاطمية ‬واستولي ‬الأيوبيون ‬علي ‬السلطة ‬في ‬مصر ‬التي ‬تصدت ‬وحدها ‬للصليبيين ‬واستطاعت ‬مع ‬صلاح ‬الدين ‬وخلفائه ‬أن ‬توقع ‬بهم ‬الهزائم ‬وأن ‬تستأصل ‬شأفتهم، ‬كما ‬استطاعت ‬بعد ‬الأيوبيين ‬أن ‬تتصدي ‬للمغول ‬الذين ‬اجتاحوا ‬بغداد ‬وقضوا ‬علي ‬الخلافة ‬العباسية ‬حتي ‬هزمهم ‬المماليك ‬في ‬عين ‬جالوت ‬بعد ‬أن ‬قضوا ‬علي ‬الأيوبيين ‬وأسسوا ‬دولتهم ‬التي ‬ورثت ‬الخلافتين ‬وحكمت ‬مصر ‬والشام ‬والحجاز ‬واليمن ‬وأرمينيا.‬
في ‬تلك ‬المرحلة ‬الغنية ‬بالأحداث ‬والتطورات ‬كانت ‬روح ‬جديدة ‬تنبعث ‬في ‬مصر ‬التي ‬تعربت ‬وأسلمت ‬وأصبحت ‬سلطنة ‬مستقلة. ‬وفيها ‬ولد ‬البهاء ‬زهير ‬في ‬الحجاز، ‬لكنه ‬هاجر ‬إلي ‬مصر ‬في ‬سن ‬مبكرة ‬ليعيش ‬في ‬الصعيد ‬في ‬مدينة ‬قوص ‬التي ‬كانت ‬في ‬ذلك ‬الوقت ‬ملتقي ‬ثقافيا ‬مهما ‬ومحطة ‬في ‬الطريق ‬الذي ‬يسلكه ‬الحجاج ‬المصريون ‬والمغاربة ‬إلي ‬الأراضي ‬المقدسة. ‬وهكذا ‬اتصلت ‬تجربة ‬البهاء ‬زهير ‬بتجربة ‬مصر ‬كلها. ‬فمصر ‬تتعرب، ‬والبهاء ‬زهير ‬يتمصر.‬
فرعي ‬الله ‬عهد ‬مصر ‬وحيا
ما ‬مضي ‬لي ‬بمصر ‬من ‬أوقاتِ
حّبذا ‬النيل ‬والمراكب ‬فيه
مصعدات ‬بنا ‬ومنحدرات
هات ‬زدني ‬من ‬الحديث ‬عن ‬النيل
ودعني ‬من ‬دجلة ‬وفرات
ولياليَّ ‬في ‬الجزيرة ‬والجيزة
فيما ‬اشتهيت ‬من ‬لذاتِ
بين ‬روض ‬حكي ‬ظهور ‬الطواويس
وجو ‬حكي ‬بطون ‬البزاةِ
ونديم ‬كما ‬نحب ‬ظريفٍ
وعلي ‬كل ‬ما ‬نحب ‬مؤاتي
يا ‬زماني ‬الذي ‬مضي ‬يا ‬زماني
لك ‬مني ‬تواتر ‬الزفراتِ!‬
وسوف ‬نري ‬أن ‬البهاء ‬زهير ‬لا ‬يمثل ‬مصر ‬بما ‬قاله ‬من ‬شعر ‬تغني ‬فيه ‬بها ‬وتحدث ‬عن ‬معالمها ‬كما ‬فعل ‬في ‬هذه ‬الأبيات ‬فحسب ‬وكما ‬يمكن ‬لشاعر ‬أن ‬يفعل ‬دون ‬أن ‬تربطه ‬بمصر ‬رابطة، ‬وإنما ‬يمثلها ‬بروحها ‬التي ‬تجسدت ‬فيه ‬فأصبح ‬يشعر ‬كما ‬تشعر ‬مصر ‬وينطق ‬كما ‬تنطق ‬سواء ‬وهو ‬يتحدث ‬عنها ‬أو ‬وهو ‬يتحدث ‬في ‬أي ‬موضوع ‬آخر. ‬ولهذا ‬اخترته ‬لأتحدث ‬من ‬خلاله ‬عن ‬شاعرية ‬مصر ‬العربية ‬وأشرح ‬معني ‬العبارة ‬التي ‬جعلتها ‬عنوانا ‬ثابتا ‬لهذه ‬المقالات. ‬مصر ‬الشاعرة.‬
ما ‬هو ‬المعني ‬الذي ‬أقصده ‬عندما ‬أتحدث ‬عن ‬مصر ‬الشاعرة؟
المعني ‬الذي ‬أقصده ‬هو ‬شخصية ‬مصر ‬في ‬فن ‬الشعر وهو ‬المكان ‬الذي ‬تحتله ‬في ‬شعر ‬اللغات ‬التي ‬نظم ‬بها ‬الشعراء ‬المصريون ‬وخاصة ‬في ‬شعر ‬اللغة ‬العربية ‬التي ‬أصبحت ‬بعد ‬الفتح ‬العربي ‬لغة ‬وطنية ‬في ‬مصر ‬يتكلمها ‬المصريون ‬ويعبرون ‬بها ‬عن ‬أنفسهم ‬شعرا ‬ونثرا ‬كما ‬يفعل ‬غيرهم ‬من ‬الناطقين ‬بها ‬سواء ‬أصحابها ‬الأصليون ‬الذين ‬حملوها ‬إلينا ‬أو ‬غيرهم ‬ممن ‬تلقوها ‬مثلنا ‬وتعربوا ‬كما ‬تعربنا ‬في ‬الشام ‬والعراق ‬وبلاد ‬المغرب ‬والأندلس.‬
ما ‬الذي ‬تتميز ‬به ‬لغة ‬المصريين ‬العربية؟ ‬وما ‬الذي ‬أضافته ‬مصر ‬للشعر ‬العربي؟
لقد ‬كان ‬علي ‬اللغة ‬العربية ‬أن ‬تخوض ‬في ‬مصر ‬معركة ‬طويلة لتتوطن أى ‬لتتمصر ‬وتحل ‬محل ‬اللغات ‬التي ‬كان ‬يتكلمها ‬المصريون ‬وتصبح ‬لغة ‬الادارة ‬والثقافة ‬والحياة ‬دون ‬شريك، ‬وهي ‬معركة ‬طالت ‬كما ‬شرحت ‬في ‬المقالات ‬السابقة ‬واستمرت ‬عدة ‬قرون ‬حتي ‬ظهر ‬في ‬نهايتها ‬أوائل ‬المصريين ‬الذين ‬انضموا ‬لغيرهم ‬من ‬كتاب ‬العربية ‬وشعرائها ‬من ‬أمثال ‬الأسعد ‬بن مماتى ‬الذي ‬عاش ‬في ‬القرن ‬الثاني ‬عشر ‬الميلادي ‬ ‬السادس ‬الهجري ‬ ‬وكان ‬كاتبا ‬وشاعرا ‬وجغرافيا. ‬ولد ‬لأسرة ‬قبطية ‬واعتنق ‬الاسلام ‬وشغل ‬عدة ‬مناصب ‬في ‬دولة ‬صلاح ‬الدين ‬الأيوبي، ‬وله ‬ديوان ‬شعر ‬فضلا ‬عن ‬مؤلفات ‬نثرية ‬يتحدث ‬في ‬بعضها ‬عن ‬مصر ‬وأراضيها ‬ومساحاتها. ‬أما ‬أشهر ‬مؤلفاته ‬فكتاب ‬سماه ‬‮«‬الفاشوش ‬في ‬أحكام ‬قراقوش». ‬والفاشوش ‬هو ‬الضعيف ‬المتهالك ‬الذي ‬لا ‬قيمة ‬له. ‬أما ‬قراقوش ‬فاسم ‬أطلقه ‬المصريون ‬علي ‬وزير أيوبى ‬أصبح ‬عندهم ‬رمزا ‬للطغيان ‬فجعلوه ‬هدفا ‬لسخريتهم ‬ونكاتهم ‬التي ‬تعودوا ‬أن ‬ينتقموا ‬بها ‬من ‬الحكام ‬الطغاة.‬
وفي ‬العصر ‬الذي ‬ظهر ‬فيه ‬ابن ‬مماتي ‬ظهر ‬من ‬الشعراء ‬ابن ‬مطروح، ‬وابن ‬النبيه، ‬والبهاء ‬زهير، ‬وابن ‬سناء ‬الملك. ‬أما ‬النثر ‬فأهم ‬ما ‬قدمه ‬المصريون ‬فيه ‬هو ‬السير ‬والقصص ‬الشعبية ‬التي ‬شارك ‬في ‬ابداعها ‬عامة ‬المصريين ‬وأضافوا ‬بها ‬للأدب ‬العربي ‬فنا ‬لم ‬يعرفه ‬من ‬قبل، ‬كما ‬فعلوا ‬في ‬هذا ‬العصر ‬الحديث ‬الذي ‬ولدت ‬فيه ‬الرواية ‬العربية ‬ووصلت ‬إلي ‬قمة ‬نضجها ‬علي ‬أيدي ‬الكتاب ‬المصريين. ‬فإذا ‬لم ‬تكن ‬مساهمة ‬المصريين ‬في ‬الفنون ‬القصصية ‬والمسرحية ‬محل ‬تساؤل ‬أو ‬خلاف ‬فالسؤال ‬مطروح ‬حول ‬مساهمتهم ‬في ‬فن ‬الشعر، ‬وهم ‬أول ‬من ‬يطرحونه ‬علي ‬أنفسهم ‬كما ‬نفعل ‬في ‬هذه ‬المقالات.‬
..............
السؤال ‬مطروح ‬لأن ‬القصيدة ‬العربية ‬ظهرت ‬في ‬موطنها ‬الأول ‬وتشكلت ‬ونضجت ‬هي ‬ولغتها ‬وازدهرت ‬في ‬دمشق ‬وبغداد ‬والبصرة ‬وغيرها ‬من ‬عواصم ‬الخلافة، ‬وأصبحت ‬تراثا ‬باذخا ‬قبل ‬أن ‬يتعرب ‬المصريون ‬وقبل ‬أن ‬يبدأوا ‬مشاركتهم ‬في ‬ابداع ‬الشعر ‬العربي ‬الذي ‬تتلمذوا ‬فيه ‬بالضرورة ‬علي ‬من ‬سبقوهم ‬من ‬الشعراء ‬الجاهليين ‬والاسلاميين ‬الذين ‬أصبح ‬شعرهم ‬نموذجا ‬يقيس ‬عليه ‬الناقد ‬أو ‬القارئ ‬ما ‬يقرأه ‬أو ‬يسمعه. ‬وهو ‬سلوك ‬مفهوم ‬في ‬ثقافة ‬انتقلت ‬من ‬موطنها ‬الأصلي ‬إلي ‬مواطن ‬أخري ‬متفرقة ‬وارتبطت ‬فيها ‬اللغة ‬بالدين ‬وأصبحت مرجعا ‬من ‬مراجعه ومن ‬هذا ‬الارتباط ‬كانت ‬النزعة ‬المحافظة ‬التي ‬حالت ‬دون ‬تطور ‬القصيدة ‬العربية ‬وجعلت ‬شعر ‬المحدثين ‬اعادة ‬صياغة ‬لشعر ‬القدماء ‬لا ‬يستطيعون ‬أن ‬يضيفوا ‬إليه ‬من ‬عندهم ‬إلا ‬بعض ‬المحسنات ‬الشكلية. ‬فإذا ‬كنا ‬نستطيع ‬أن ‬نفهم ‬هذا ‬السلوك ‬ونقدره ‬فلكي ‬نعرف ‬سلبياته ‬ونتحرر ‬منه ‬ونحن ‬ننظر ‬في ‬الشعر ‬المصري ‬الذي ‬نشأ ‬في ‬ظروف ‬مختلفة ‬عن ‬الظروف ‬التي ‬نشأ ‬فيها ‬شعر ‬الشام ‬والعراق. ‬البيئة ‬غير ‬البيئة، ‬والعصر ‬غير ‬العصر، ‬والميراث ‬الثقافي ‬غير ‬الميراث.‬
وأنا ‬أتكلم ‬هنا ‬عن ‬شعر ‬الفصحي ‬التي ‬نعرف ‬أنها ‬لغة ‬واحدة ‬في ‬كل ‬الأمصار ‬والبلاد ‬التي ‬فتحها ‬العرب. ‬لكننا ‬نعرف ‬من ‬ناحية ‬أخري ‬أن ‬اللغة ‬التي ‬تكون ‬واحدة ‬عند ‬اللغويين ‬لا ‬تكون ‬كذلك ‬عند ‬الشعراء ‬والأدباء ‬أو ‬يجب ‬ألا ‬تكون ‬كذلك. ‬لأن ‬لغة ‬الابداع ‬ابداع ‬يتأثر ‬فيه ‬المبدع ‬بما ‬يحيط ‬به، ‬وبما ‬يجده ‬في ‬ذاته، ‬وبما ‬يكتشفه ‬بقدراته ‬التي ‬لا ‬يملكها ‬سواه ‬ويضيفه ‬إلي ‬ما ‬هو ‬ملكية ‬مشتركة ‬من ‬العناصر ‬اللغوية ‬والأدوات ‬والخبرات ‬التي ‬يتلقاها ‬من ‬غيره ‬ويصنع ‬من ‬هذا ‬كله ‬قصيدته ‬التي ‬يجتهد ‬في ‬أن ‬تكون ‬معبرة ‬عن ‬شخصيته ‬التي ‬شكلتها ‬بيئته ‬وظروفه ‬وثقافته ‬التي ‬تلهم ‬غيره ‬كما ‬تلهمه ‬وتجعل ‬شعر ‬الجاهليين ‬علي ‬سبيل ‬المثال ‬قصيدة ‬تكاد ‬تكون ‬واحدة ‬يلتزم ‬فيها ‬الجميع ‬شكلا ‬واحدا ‬ويستخدمون ‬رموزا ‬مشتركة ‬وإن ‬اختلفت ‬لهجة ‬كل ‬منهم ‬عن ‬لهجات ‬الآخرين. ‬ونحن ‬نري ‬أن ‬هذه ‬الخصوصية ‬ليست مقصورة ‬علي ‬الشعر ‬في ‬بيئة ‬أو ‬في ‬عصر ‬دون ‬غيره ‬وإنما ‬هي ‬متحققة ‬في ‬شعر ‬كل ‬بيئة ‬وكل ‬عصر. ‬وعلي ‬أساسها ‬نتحدث ‬عن ‬شعر ‬المصريين ‬فنقول ‬أنه ‬مختلف ‬عن ‬شعر ‬الشوام ‬وعن ‬شعر ‬العراقيين ‬وغيرهم ‬رغم ‬أن ‬المعجم ‬والنحو والتراكيب ‬والأوزان ‬واحدة ‬كلها.‬
..............
هذه ‬القضية، ‬قضية ‬البحث ‬عن ‬خصوصية ‬الشعر ‬المصري ‬المنظوم ‬بالعربية ‬شغلت ‬الكثيرين ‬ولاتزال ‬تشغلهم ‬حتي ‬الآن. ‬لأن ‬شخصية ‬مصر ‬تشغل ‬الكثيرين ‬الذين ‬يتحدثون ‬عن ‬عبقريتها ‬المكانية ‬والزمانية ‬وعن ‬حضارتها ‬وثقافتها ‬وأدبها ‬وفنها. ‬وباستطاعة ‬القارئ ‬أن ‬يراجع ‬ما ‬كتبه ‬العقاد ‬في ‬هذه ‬القضية ‬في ‬كتابيه ‬‮«‬ساعات ‬بين ‬الكتب‮»، ‬و«شعراء ‬مصر ‬وبيئاتهم ‬في ‬الجيل ‬الماضي»‬، ‬وما ‬كتبه ‬أمين ‬الخولي ‬في ‬محاضراته ‬عن ‬الأدب ‬المصري، ‬ومحمد ‬كامل ‬حسين ‬في ‬عدد ‬من ‬مؤلفاته، ‬وأحمد ‬سيد ‬محمد ‬في ‬‮«‬الشخصية ‬المصرية ‬في ‬الأدبين ‬الفاطمي ‬والأيوبي»‬.‬
ولقد ‬استند ‬الكثيرون ‬في ‬تصورهم ‬للشخصية ‬المصرية ‬علي ‬البيئة ‬الجغرافية ‬وعلي ‬الأحداث ‬التاريخية ‬التي ‬تتأثر ‬بها ‬الشخصية ‬القومية ‬دون ‬شك، ‬لكني ‬أستند ‬في ‬تصوري ‬للشخصية ‬المصرية ‬علي ‬اللغة ‬قبل ‬أي ‬شيء ‬آخر. ‬لأن ‬اللغة ‬القومية ‬ولغة ‬الأدب ‬والشعر ‬بالذات ‬ليست ‬مجرد ‬مفردات ‬كما ‬أشرت ‬من ‬قبل، ‬ولكنها ‬ثقافة ‬جامعة. ‬أحداث ‬وتجارب ‬وخبرات ‬متراكمة، ‬وحافظة ‬تختزن ‬ما ‬اجتمعت ‬عليه ‬الأمة ‬واتفقت ‬علي ‬حفظه ‬وتذكره ‬والرجوع ‬إليه. ‬وبهذا ‬نستطيع ‬أن ‬نقول ‬إن ‬الأمة ‬تتمثل ‬في ‬لغتها ‬التي ‬تجسد ‬روحها ‬وتعبر ‬عن ‬عبقريتها. ‬والخطأ ‬الفاحش ‬الذي ‬يقع ‬فيه ‬البعض ‬هو ‬أنهم ‬يتخذون ‬الشعر ‬في ‬بعض ‬البلاد ‬وبعض ‬العصور ‬نموذجا ‬يقيسون ‬عليه ‬الشعر ‬المصري ‬فيجدونه ‬مختلفا ‬وبهذا ‬لا ‬يعطونه ‬حقه ‬لأنهم ‬لا ‬يجدون ‬فيه ‬البحتري ‬وأبا ‬تمام.‬
إذا ‬أردنا ‬أن ‬نقرأ ‬الشعر ‬المصري ‬وأن ‬نعرفه ‬ونقدره ‬حق ‬قدره ‬فعلينا ‬أن ‬نسلم ‬قبل ‬كل ‬شيء ‬بخصوصيته ‬واستقلاله ‬وألا ‬نشرك ‬معه ‬شعرا ‬آخر ‬يحول ‬بيننا ‬وبين ‬اكتشافه ‬وتذوقه. ‬وقد ‬بدأت ‬هذه ‬القراءة ‬في ‬مقالة ‬الشهر ‬الماضي ‬التي ‬تحدثت ‬فيها ‬عن ‬لغته ‬وعن ‬حوار ‬العامية ‬والفصحي ‬فيها، ‬وهذه مسألة ‬أتمني ‬أن ‬تفهم ‬فهما ‬صحيحا. ‬فأنا ‬لم ‬أتحدث ‬عن ‬لغة ‬هجين ‬أو ‬لغة ‬اختلطت ‬فيها ‬الأدوات، ‬وإنما ‬قصدت ‬بالعامية ‬والفصحي ‬روح ‬الشعب ‬من ‬ناحية ‬وثقافة ‬النخبة ‬من ‬ناحية ‬أخري. ‬فالشعر ‬المصري ‬هو ‬شعر ‬المصريين ‬حين ‬يعبر ‬المصريون ‬عن ‬أنفسهم ‬باللغة ‬الفصحي ‬وحين ‬تتمصر ‬الفصحي ‬وتتحرر ‬مما ‬تختزنه ‬في ‬خلاياها ‬من ‬بيئتها ‬الأولي ‬وتنطق ‬بلسان ‬المصريين ‬وتعبر ‬عن ‬ذكائهم ‬وبساطتهم ‬وحبهم ‬للحياة ‬وقدرتهم ‬علي ‬الجمع ‬في ‬لمحة ‬واحدة ‬بين ‬الجد ‬والهزل ‬وبين ‬الضحك ‬والبكاء.‬
فإذا ‬كان ‬لنا ‬بعد ‬هذا ‬الحديث ‬عن ‬اللغة ‬والشخصية ‬القومية ‬وعن ‬شعر ‬مصر ‬وشاعريتها ‬ ‬إذا ‬كان ‬لنا ‬أن ‬ننظر ‬في ‬ديوان ‬البهاء ‬زهير ‬فماذا ‬نجد؟
نحن ‬نجد ‬في ‬الديوان ‬قصيدتين ‬ونجد ‬لغتين: ‬الأولي ‬هي ‬تلك ‬القصائد ‬التي ‬يمدح ‬فيها ‬بعض ‬رجال ‬عصره ‬ويستخدم ‬فيها ‬لغة ‬لا ‬عيب ‬فيها ‬إلا ‬أنها ‬لغة ‬قديمة ‬تقليدية ‬طالما ‬طالعناها ‬وحفظناها ‬وعرفنا ‬ما ‬فيها ‬قبل ‬أن ‬نقرأها. ‬فالممدوح ‬بحر ‬في ‬الجود، ‬وأسد ‬في الهيجاء، ‬وهو ‬شمس ‬ساطعة ‬وقمر ‬منير.. ‬إلي ‬آخره. ‬أما ‬القصيدة ‬الأخري ‬فهي ‬قصيدة ‬البهاء ‬زهير ‬حقا ‬وصدقا، ‬لأنها ‬القصيدة ‬التي ‬يغني ‬فيها ‬لنفسه، ‬يحب ‬فيها ‬ويكره، ‬ويطرب ‬ويشرب، ‬ويحلم ‬ويحن، ‬ويتمني ‬ويتذكر، ‬ويهجو ‬ويسخر، ‬ويستخدم ‬في ‬ذلك ‬كله ‬لغته ‬هو ‬لا ‬لغة ‬غيره. ‬لغة ‬حية ‬مأنوسة ‬مألوفة ‬نعرفها ‬لكننا ‬مع ‬ذلك ‬نفاجأ ‬بها، ‬لأنها ‬اللغة ‬التي ‬نتكلمها ‬ونتواصل ‬بها، ‬لكننا ‬لم ‬نتعود ‬أن ‬نقرأها ‬في ‬الشعر. ‬وها ‬نحن ‬نقرأها ‬فنجدها ‬حية ‬صادقة ‬صريحة ‬وفصيحة ‬تكشف ‬عن ‬نفس ‬الشاعر ‬كما ‬تكشف ‬لنا ‬عن ‬نفوسنا.‬
ومن ‬حسن ‬الطالع ‬أن ‬تكون ‬هذه ‬القصيدة ‬هي ‬الغالبة ‬في ‬ديوان ‬البهاء ‬زهير ‬الذي ‬كان ‬في ‬ديوانه ‬شاعرا ‬مغنيا ‬أكثر ‬بكثير ‬مما ‬كان ‬شاعرا ‬مداحا. ‬ولأنه ‬كان ‬شاعرا ‬مغنيا ‬ظل ‬شاعرا ‬إلي ‬اليوم، ‬لأن ‬المشاعر ‬والأحاسيس ‬التي تغني بها ‬قبل ‬ثمانية ‬قرون ‬هي ‬المشاعر ‬والأحاسيس ‬التي ‬يتغني ‬بها ‬الشعراء ‬اليوم ‬وسوف ‬يتغنون ‬بها ‬غدا ‬وبعد ‬غد.‬
أروح ‬ولي ‬في ‬نشوة ‬الحب ‬هِزةٌ
ولست ‬أبالي ‬أن ‬يقال ‬طروبُ
محب ‬خليع ‬عاشق ‬متهتك
يلذ ‬لقلبي ‬كل ‬ذا ‬ويطيبُ
خلعت ‬عذاري، ‬بل ‬لبست ‬خلاعتي
وصرحت ‬حتي ‬لا ‬يقال ‬مريبُ
وفي ‬لي ‬من ‬أهوي ‬وأنعم ‬بالرضا
يموت بغيظ ‬عاذلٌ ‬ورقيبُ!‬
ويقول ‬في ‬شخص ‬متطفل:
وأحمق ‬قد ‬شقيت ‬به
بلا ‬عقل ‬ولا ‬أدبِ
فلا ‬ينفك يتبعنى
وإن ‬أمعنت ‬في ‬الهربِ
كأني ‬قد ‬قتلت ‬له
قتيلا ‬فهو ‬في ‬طلبي!‬
ويقول ‬في ‬منقبة ‬متصابية:‬
كم ‬ذا ‬التصاغر ‬والتصابي
غالطت ‬نفسك ‬في ‬الحسابِ
لم ‬يبق ‬فيك ‬بقية
إلا ‬التعلل ‬بالخضاب
لا ‬أقتضيك ‬مودة
رفع ‬الخراج ‬عن ‬الخراب
ولقد ‬رأيتك ‬في ‬النقاب
وذاك ‬عنوان ‬الكتاب
وسألت ‬عما ‬تحته
قالوا ‬عظام ‬في ‬جراب
ويقول ‬في ‬الأشرار ‬الذين ‬يتسترون ‬وراء ‬اللحي:‬
وأحمق ‬ذي ‬لحية
كثيرة ‬منتشرة
طلبت ‬فيها ‬وجهه
بشدة ‬فلم ‬أره!‬
ويقول ‬في ‬السر ‬الذي ‬ذاع:‬
سمع ‬الناس ‬وقلنا
وافتضحنا ‬واسترحنا
بت ‬والبدر ‬نديمي
ففعلنا ‬وتركنا!
ويقول ‬في ‬وداع ‬حبيبته:‬
جاءت ‬تودعني ‬والدمع ‬يغلبها
يوم ‬الرحيل ‬وحادي ‬البين ‬منصلت
وأقبلت ‬وهي ‬في ‬خوف ‬وفي ‬دهشي
مثل ‬الغزال ‬من ‬الأشراك ‬ينفلت
وقفت ‬أبكي ‬وراحت ‬وهي ‬باكية
تسير ‬عني ‬قليلا ‬ثم ‬تلتفت!‬
هكذا استطاع البهاء زهير أن «يجعل لغة الحياة الجارية فى بساطتها ومرونتها لغة للشعر» كما يقول مصطفى عبدالزازق فى كتابه البديع عن هذا الشاعر المبدع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.