هذا المقال أفتتح به حديثى عن الدور الذى أدته مصر فى الشعر العربى بعد أن تحدثت فى المقالات الأربعة السابقة عما قدمته بلغتها المصرية الهيروغليفية وبلهجتها القبطية. وأبدأ فأقول إن هذا الدور مازال غامضا حتى الآن، وأحيانا غير معترف به من أطراف مختلفة بينها بعض المصريين. وقبل فترة قليلة، شهرين أو ثلاثة أشهر، قرأت كلمة منشورة فى مجلة تصدر فى لندن يقول فيها كاتبها ما معناه إن الشعر ليس موهبة مصرية وأن المصريين لايستطيعون أن يكونوا شعراء. وقد استغربت أن تنشر كلمة كهذه فى مجلة محترمة، لأنها لاتنكر الشعر على اسم أو أسماء، بل تعمم النفى والإنكار على المصريين جميعا. والمصريون كما يعرف الذين يحررون المجلة، وكما يعرف العالم كله كثيرون، فمن هم المقصودون منهم؟ الذين عاشوا قبل ثلاثة آلاف عام وكتبوا متون الأهرام، وأناشيد أوزوريس، وأناشيد إخناتون، ودراما منف، وملحمة قادش، وأغانى العمل؟ أم الذين عاشوا قبل ألفى عام وكتبوا أسفار التكوين «الجبتانا»؟ أم الذين عاشوا بعد ذلك وكتبوا بالعربية ما كتبه البهاء زهير، والبوصيرى، وابن الفارض، وابن عروس، والبارودى، وشوقى، وحافظ، وبيرم التونسى، وبويعوا بالإمارة، وقادوا حركات التجديد، وأضافوا للشعر العربى ما اغتنى به ولم يكن فيه من قبل؟ ولو أن صاحب الكلمة كان له اسم معروف أو إنتاج مقروء يسمح له بأن يقول ما قال لكان للمجلة عذرها فى أن تنشر كلمته وتتركه لمن يستطيعون الرد عليه، لكن صاحب الكلمة الذى لانعرف عنه شيئا لايملك هذا ولا ذاك، فالهدف من نشر كلمته هدف تجارى يبدأ بالإثارة والاستفزاز والسعى لإشعال معركة مصطنعة يستدرج المصريون لدخولها. لكن هذه الكلمة التى قصد بها التحرش ليست أول كلمة تقال فى الطعن على الشعر المصرى. وخاصة ما نظم منه باللغة العربية، ولا أظن أنها ستكون آخر كلمة، لأن الموضوع مغر. والأبواب الآن مفتوحة للنيل من المصريين الذين يعتقد البعض أنهم استأثروا بالكثير ولم يتركوا لغيرهم إلا القليل. وباستطاعة أى نكرة أن يلفت النظر إذا أطلق لسانه فى البارودى أو فى شوقى بعد أن أطلق نكرات سابقون ألسنتهم فى السينما المصرية وفى موسيقى عبدالوهاب وأغانى أم كلثوم. وقد أشرت من قبل لما نشره العقاد ولويس عوض من آراء سلبية فى الشعر المصرى نحتاج لمناقشتها من جديد ونحن نبدأ حديثنا عن الدور الذى أداه المصريون فى شعر اللغة العربية منذ توطنت العربية فى مصر وأصبحت لغة قومية. وفى اعتقادى أن الموقف السلبى من الشعر المصرى لايقتصر على الشعر ولايقتصر على مصر. لأنه يرجع قبل أى شىء للتمييز بين الأصول الأولى التى جاءت منها وصدرت عنها الحضارة العربية الإسلامية، وبين الفروع التى انتقلت إليها هذه الحضارة. بين الجزيرة العربية وامتداداتها فى الشام والعراق، وبين مصر وما يليها من بلاد الشمال الإفريقى والأندلس، وقد قام هذا التمييز على أساس الدين من ناحية والسياسة من ناحية أخرى. الإسلام ظهر فى الجزيرة العربية ونشأت فرقه وتأصلت مذاهبه فى المدينة ومن بعدها دمشقوبغداد، ثم انتقل الإسلام بالفتح وانتقلت معه لغته وفرقه ومذاهبه إلى مصر وغيرها من البلاد التى أصبحت ولايات تتبع عواصم الراشدين والأمويين والعباسيين فى الدين والسياسة، وتقاس إسهاماتها وتقدر قيمتها بمدى قربها أو بعدها عن الأصول التى تحققت فى الجزيرة والشام والعراق، إلى الحد الذى نسى فيه المصريون وغير المصريين تاريخهم القديم ولغتهم وحضارتهم كلها ليبدأوا من العصر الذى أسلموا فيه وتعربوا، وهى بداية مضللة تنتزعهم من مكانهم وتشكك فيما قدموه للحضارة العربية الإسلامية وتجعلهم فى نظر أنفسهم وفى نظر غيرهم ناقلين مقلدين لايقاس عملهم بما فيه من تمثيل لشخصيتهم وتعبير عن حاجاتهم وإنما يقاس بالأصل الذى تلقوا عنه العروبة، والإسلام، هذه البداية المضللة لاتفسد وعينا بالشعر وحده، بل تفسد أيضا فهمنا للدين وتسمح بالخلط بين الإسلام وتاريخه السياسى، وبين أصوله وفروعه، وتدفع للتطرف وتشجع على العنف والإرهاب، ومن هنا نحتاج أشد الحاجة لإعادة النظر فى موقفنا من التاريخ، تاريخنا نحن المصريين، وتاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، وتاريخ الأدب. منا نحن نخلط خلطا ذريعا بين هذه التواريخ كلها ونتصورها علي غير حقيقتها، ونسقط منها ما حدث، ونضيف إليها مالم يحدث، ثم نخرج بأوهام نبحث لنا فيها عن مكان وعن دور فلا نجد الدور بالطبع ولا نجد المكان. نحن نظن أو الكثيرون منا، أن الإسلام يلزمنا بأن نعتبر تاريخنا السابق عليه جاهلية لا تختلف عن جاهلية العرب التي سبقت ظهور الإسلام عندهم. وكما تبرأ العرب من جاهليتهم واعتبروا الإسلام أول تاريخهم تبرأنا مثلهم من تاريخنا القديم ففقدنا مكاننا في التاريخ كله. وأنا هنا أتحدث عن ثقافة عامة متغلغلة في معظم الأوساط ترعاها مؤسسات رسمية وجماعات وتيارات مختلفة تتجاهل فيها تاريخنا القديم وحضارتنا، وتتبني فيها ما جاء في المصادر العبرانية عن فرعون وموسي، وتعمم هذه النظرة العرقية الكارهة علي كل ما سبق دخول العرب مصر، فتاريخ الفراعنة لا يحتل المكان الذي يستحقه في حياتنا ولا حتي في البرامج الدراسية التي تقتصر فيه علي ذكر بعض الحوادث والتاريخ للأسر الحاكمة. أما التاريخ القبطي الذي انتقلت فيه مصر للمسيحية وبدأ في القرن الميلادي الأول واستمر إلي القرن السابع فليس له مكان، لا في البرامج الدراسية ولا في غيرها، وحسب هذه النظرة يدخل العرب مصر فلا يجدون شعبا يتعاملون معه، ولا يجدون تاريخا، ولا يجدون حضارة يأخذون منها ويعطون، وإنما يحلون هم في مصر كما حل الانجليز البيوريتان في أمريكا يستولون علي ما فيها ويقيمون حياتهم علي أشلاء الهنود الحمر والتشبيه مع الفارق بالطبع فإذا كان المصريون قد واصلوا حياتهم في وطنهم بعد دخول العرب فليس أمامهم إلا أن يسلكوا الطريق الذي اعتاد أن يسلكه المغلوبون مع الغالبين، وهو أن يأخذوا عنهم كل شىء ويرضوا بالهامش البعيد المخصص للتابعين ولا يطمعوا في المركز أو في مقام الشريك صاحب الحق القادر علي التجديد والاضافة، والا فالتجديد والاضافة خروج علي الثوابت التي لابد أن نلتزمها وأن نتبرأ من كل ماعداها حتي من هذه الحضارة التي لايمكن لأحد أن يساويها بما كان عليه العرب قبل الإسلام. حين يتبرأ العرب من تاريخهم السابق علي الاسلام يعبرون عن موقف نستطيع أن نفهمه لانهم لم يتبرأوا في الحقيقة الا من عادات وتقاليد بدائية خرجوا منها الي الإسلام الذي تحضروا بفضله وملكوا العالم واحتفظوا مع ذلك بأفضل ماحققوه في جاهليتهم، وهو شعرهم ولغتهم التي تبناها الوحي ونزل بها، أما نحن فحين نتبرأ من تاريخنا القديم نخسر كل شئ. حين نتبرأ من تاريخنا القديم أو حين نتجاهله وننساه نخسر كل ما حققناه فيه، نخسر اننا سبقنا البشرية كلها الي الايمان بالإله الواحد، وبالعالم الآخر والثواب والعقاب، وعرفنا للضمير مكانه واحتكمنا له، وقدسنا الحياة الدنيا فصارت نظاما وقانونا، وصارت غناء ورقصا وتصويرا ونحتا وعمارة، كل هذا نخسره حين ننسي تاريخنا القديم. ونحن نخسر الحاضر حين نخسر الماضي، لأننا لا نستطيع أن نبني علي فراغ، وفي هذه الحالة نصبح مجرد ناقلين نطلب الفتوي ليس في الدين وحده، بل أيضا في السياسة، والاقتصاد، وفي العلم والفن، ونبحث في القرن الثامن والتاسع عن حلول لما نواجهه في القرن العشرين والحادي والعشرين من مشكلات لا نستطيع أن نواجهها بما نملك من طاقات وقدرات، وانما نواجهها بالنصوص المحفوظة التي لا يحق لنا أن نناقشها بل نحن نستسلم لها ونتنازل عن حقنا في التفكير ونتنازل عن حقنا في الحرية لأن الحرية عقل وإرادة، والذي يتنازل عن عقله وإرادته يسقط لا محالة في العبودية ويرضي بالاستبداد. أعرف اني ابتعدت بعض الشئ عن موضوعي الأصلي وهو الشعر، لكني أري أن ما نواجهه في الشعر نواجهه في غيره فلابد أن نبحث عن السبب الاصلي الذي يسقط حقنا في المراجعة والتجديد والتعبير عن أنفسنا والتحرر من العصور الوسطي ومن عقليتها التي جردتنا من كل ما نملك من حضارتنا في الماضي والحاضر، لأن الماضي في نظرها جاهلية، والحاضر محاكاة وتقليد. غير أننا وإن تبرأنا من تاريخنا لا نستطيع أن نغادره أو نتخلص من تأثيره، نحن نتبرأ منه بوعي زائف يضللنا عن أنفسنا ويجعلنا نعتقد أن شيئا لم يعد يربطنا بتاريخنا القديم، وأننا لم نعد بالتالي مؤهلين لصنع تاريخ جديد ينتمي لنا ونتمني له، تماما كما يحدث حين يتبرأ الابن من أبيه في نوبة عقوق، أو الأب من ابنه في ساعة غضب. لكن الدم يظل هو الدم والعرق يظل هو العرق، والتاريخ لا يفني ولاينقطع. حضارتنا القديمة باقية حية، ليس فقط لأنها تكشف لنا كل يوم عن أثر جديد يذكرنا بها ويثير فينا الشعور بالفخر والاعتزاز، ولكن لأنها قبل كل شئ قيم ومثل عليا تبقي علي الزمن وترحل في العصور. انها ضمير وفكر وحق وخير وعدالة، ومحبة وفن وجمال، وهي قيم انتقلت معنا الي المسيحية ومصرت المسيحية فجعلتها مسيحية قبطية تختلف عن المسيحية الرومية، ثم انتقلت معنا من جديد لتتجسد في الاسلام وتمصره وفي اللغة العربية فتنطقها بما نطق به البهاء زهير، وابن عروس، وشوقي، وحافظ، وبيرم، وطه حسين، والعقاد، والحكيم، ونجيب محفوظ. لكننا حتي الآن نتبع منهجا في القراءة يقيد حريتنا ويحرمنا من الانخراط في حياة العصور الحديثة، ويمنعنا حتي من التعرف علي ما قدمناه للأدب العربي وللحضارة العربية الإسلامية نحن ندرس أدبنا وشعرنا خاصة ونقرأه ضمن ما ندرسه ونقرأه فى تاريخ الأدب العربى الذى فرض عليه أن يكون تابعا لتاريخ الخلافة والدول الإسلامية، فكما أن تاريخ الإسلام مقسم إلى عصور سياسية يسمى كل منها باسم الأسرة التى تولت السلطة وتوارثتها فالأدب العربى كذلك مقسم لهذه العصور ذاتها. يبدأ بالعصر الجاهلى ومنه الى صدر الاسلام ثم الى العصر الأموى فالعباسى حتى عصور المماليك والعثمانيين، وهو يعتبر الأدب العربى كله أدبا واحدا لأنه أدب لغة واحدة يكتبه كتاب وشعراء يدينون بدين واحد ويعيشون فى دولة الخلافة الجامعة. وفى هذا الأدب تحتل الأعمال المكتوبة فى عاصمة الخلافة مكان الصدارة. لأن العاصمة هى مقر الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة الذين يقصدهم الكتاب والشعراء ويطلبون رفدهم. ومن الطبيعى أن يعتبر ما يكتبه وما ينظمه هؤلاء نموذجا يحتذى ويقاس عليه، فإذا ظهر الفرق الذى لابد أن يظهر بين قصيدة تكتب فى مصر مثلا وأخرى تكتب فى بغداد، عد هذا الفرق نقصا ينال من القصيدة المصرية ويشكك فى قيمتها. ومن الواضح أن هذا المنهج فى كتابة تاريخ الأدب وفى فهم النصوص الأدبية منهج مضلل لأن الذين يكتبون هذه النصوص ينتمون لبيئات شتى، ويخضعون لظروف ومؤثرات سياسية واجتماعية وثقافية متباينة لابد أن يختلف معها شعر الأندلس عن شعر الشام وشعر مصر عن شعر العراق والمغرب واليمن. ونحن نعرف بالطبع أن اللغة الفصحى التى ينظم بها الشعراء العرب فى جميع أقطارهم لغة واحدة. لكننا نعرف مع ذلك أن هذه الفصحى لها فى كل بلد عربى طابع خاص. الفصحى اللبنانية فى شعر سعيد عقل تختلف عن الفصحى العراقية فى شعر الرصافى أو الجواهرى وعن الفصحى المصرية فى شعر الجارم وعزيز أباظة. وقد دخلت الفصحى مصر عندما كان المصريون يستخدمون لغتين مختلفتين. لغتهم القبطية وكانت لغة الحياة اليومية عند عامة المصريين، واللغة اليونانية وكانت لغة الثقافة والإدارة ولغة اليونانيين الذين استوطنوا مصر خلال الحكم المقدونى. وقد دخلت لغة الفاتحين العرب فى سباق مع اللغتين خرجت منه منتصرة بالطبع، فهى لغة الفاتحين ولغة دينهم، لكنها خرجت من هذا السباق وفيها من اللغتين اللتين انتصرت عليهما آثار ظهرت بقوة ووضوح فى العامية العربية المصرية، وبصورة أقل فى الفصحى التى كانت مراجعها الدينية سورا يحيط بها ويخفف من تأثير الزمن واللغات الأخرى عليها. ومع هذا فالفصحى فى كل بلد عربى لها طابعها الخاص كما قلت. وهذا قانون نراه ساريا على كل لغة انتقلت من موطنها الأصلى إلى موطن آخر أو من زمن إلى زمن جديد. الفرنسية التى هاجرت مع الفرنسيين إلى كندا فى القرن السابع عشر تختلف عن الفرنسية التى بقيت فى الوطن. فقد اجتهد المهاجرون الفرنسيون فى المحافظة على لغتهم التى حملوها إلى كندا خوفا من أن تغرق فى بحر الإنجليزية التى يتكلمها معظم الكنديين ذوى الأصول الإنجلو سكسونية. والنتيجة أن فرنسية كندا ظلت هى فرنسية القرن السابع عشر، أما فرنسية فرنسا فقد تطورت واستجابت دون خوف للمؤثرات التى توالت عليها خلال القرون الأربعة الماضية. وما يقال عن الفرنسية الكندية يقال عن الإنجليزية الأمريكية، ويقال عن العربية المصرية التى اكتسبت فى معجمها ونحوها سمات لفتت أنظار اللغويين وصدرت فيها مؤلفات منها على سبيل المثال الكتاب الذى ألفه محمد بن أبى السرور الصديقى الشافعى منذ نحو أربعة قرون وسماه «القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر من لغات العرب». وقبله كتاب يوسف المغربى «رفع الإصر عن كلام أهل مصر». يقول إبراهيم الابيارى فى تقديمه لكتاب الصديقى الشافعى الذى حقق وطبع فى الستينيات الأولى من القرن الماضى «.. ولكن اللغات الغازية مهما ملكت أسباب القوة» ومهما ملكت أسباب الغلبة لا تمضى مبرأة من ألفاظ وعبارات من اللغة المغزوة. وكما عاشت اللغة العربية فى البلاد التى دخلتها غير مبرأة من هذا الدخيل كذلك عاشت فى مصر غير مبرأة من هذا الدخيل، وكان لكل بيئة دخلتها اللغة العربية غازية ظروفها وأحوالها». وقد وضع الإبيارى يده فى هذا السطر الأخير على المنهج الذى يجب أن نتبعه فى كتابة تاريخ الأدب وفى فهم نصوصه، وهو المنهج الذى ينظر لاختلاف البيئات كما ينظر لاختلاف العصور. ويعتبر الناقد الفرنسى هيبوليت تين الذى عاش فى القرن التاسع عشر من دعاته الاوائل، أما عندنا فمن أهم دعاته أمين الخولى فى محاضرات ألقاها على طلابه فى كلية الآداب فى الأربعينيات الأولى من القرن الماضى وجمعت فى كتاب صدر بعنوان «فى الأدب المصرى». فإلى المقالة القادمة التى سنلم فيها بهذا المنهج ونقرأ بعض الأشعار.