إذا أردنا أن نعرف طبيعة العلاقة الموجودة بين الفصحى والعامية فليس أمامنا إلا أن نبحث عما يكون من تأثير حداهما على الأخرى سلبا وإيجابا فى مراحل الازدهار والتقدم وفى مراحل الضعف والتراجع. ومن الطبيعى أن تكون الفصحى هى المعيار الذى نستخدمه فى قياس القوة والضعف والانتشار والانحسار. فى هذا العصر الحديث الذى ازدهرت فيه العربية الفصحى فى مصر وعادت للحياة واستعادت مكانها فى الشعر والنثر والتأليف والترجمة، واقتحمت ميادين جديدة لم تعرفها من قبل فى السياسة والادارة والعلم والتعليم والفن والاعلام. فى هذا العصر كيف كان حال العامية؟ وهل استفادت فيه من الفصحى التى ازدهرت أم خسرت وانزوت؟ الجواب الذى لاشك فيه أن العامية ازدهرت بازدهار الفصحي. ويكفى أن ننظر فى كلمات الأغانى التى نظمها كبار شعراء الفصحى بالعامية. إسماعيل صبري، وأحمد شوقي، وأحمد رامى يكفى أن ننظر فى الأغانى التى كتبها أمير الشعراء لأمير الغناء «بلبل حيران» على سبيل المثال: بلبل حيران/ على الغصون شجى مُعَّني/ بالورد هايم فى الدوح سهران/ من الشجون بكى وغني/ والورد نايم إنك تقرأ هذه الكلمات فلا تجد فرقا كبيرا بينها مسموعة ومقروءة.وكما تنسبها للعامية تستطيع ببعض التسامح أن تنسبها للفصحي. هذا التواصل بين العربية والفصحى والعامية المصرية لم يكن أمرا طبيعيا لدى المصريين وحدهم، بل كان كذلك لدى المستمعين العرب، ولدى شعراء كبار تبنوه وشاركوا فيه كما فعل الشاعر اللبنانى الأخطل الصغير فى أغنية «الورد» التى لحنها عبدالوهاب وغناها: ياورد مين يشتريك/ وللحبيب يهديك يهدى اليه الغزل/ والهوى والقبل أبيض. غار النهار منه/ خجول محتار باسه الندى ف خده راح للنسيم واشتكي/ جرح خدوده وبكي ياورد هون عليك! عاد بلبلك ولهان/ يسأل عنك الربي والزهر والأغصان يهتف أين التى وهبتها مهجتى؟! كيف نميز فى هذه الكلمات بين العامية والفصحى؟ الفرق فيها بين العامية والفصحى فرق فى النطق لو تنازلنا عنه لم يبق هناك فرق.والحقيقة أن هذا التواصل الذى نراه بين الفصحى والعامية ليس بدعة طارئة، ولكنه ظاهرة عر نجد لها أمثلة كثيرة فى قصائد الشاعر المصرى البهاء زهير الذى عاش فى زمن الأيوبيين. هذا الشاعر أراد أن يهجو شخصا فلم تسعفه إلا العبارة المصرية الدارجة «العقل زينة» ضمنها هذين البيتين: ما العقل إلا زينة سبحان من أخلاك منه قسمت على الناس العقول وكان أمرا غبت عنه! وقد يرى البعض أن لقاء العامية والفصحى ممكن فى الشعر، لأن الشعر عاطفة وخيال وانفعال. ولأن الشاعر هو المتكلم فى القصيدة فى أغلب الأحوال فباستطاعته أن يستخدم اللغة كما يريد، أما فى فنون أخرى كالرواية.. والمسرحية فالكاتب أمام واقع نعرفه كما يعرفه، وأمام شخصيات يستطيع أن يرسمها فى السرد بلغته الفصحي، لكنه مضطر فى الحوار لأن يتركها تتحدث بلغتها الدارجة. وقد رأينا كيف خرج طه حسين على هذه القسمة فى أعماله الروائية ونجح نجاحا باهرا، وكيف خرج عليها نجيب محفوظ وأنطق شخصياته القاهرية بلغة نستطيع أن نعتبرها عامية «فصيحة» وهى اللغة التى استخدمها توفيق الحكيم فى «الصفقة» وسماها «اللغة الوسطي» لأنه يلتزم فيها قواعد الفصحى، لكنه يستخدم معجما متداولا وتراكيب تقترب بها من العامية، وهى اللغة التى استخدمها عبدالرحمن الشرقاوى وصلاح عبدالصبور وغيرهما من رواد التجديد فى الشعر المصرى. والتواصل الذى تحقق بين الفصحى والعامية فى الأدب تحقق بينهما فى كل المجالاات التى يحتاج فيها الكاتب أو المتحدث إلى لغة صحيحة ومسئولة ومفهومة كما كنا نرى فى لغة السياسة والادارة والقانون والصحافة، وغيرها من المجالات التى ازدهرت فيها الفصحى واقتربت من العامية، كما اقتربت العامية من الفصحى وانتفعت بها. العامية ازدهرت أيضا فى المراحل التى ازدهرت فيها الفصحى. فحركة الاحياء التى عرفتها الفصحى فى شعر البارودى ونثر محمد عبده عرفتها العامية فى أزجال عبدالله النديم وترجمات عثمان جلال تلميذ الطهطاوى الذى ترجم مسرحيات موليير من الفصحى الفرنسية إلى العامية المصرية. والمناخ السياسى والثقافى الذى ظهر فيه أمثال شوقى وحافظ وطه حسين والعقاد والحكيم هو المناخ الذى ظهر فيه بيرم التونسى وأحمد رامى ونجيب الريحاني. وفى هذا المناخ استطاعت العامية أن تشارك الفصحى فى المسرح وأن تستأثر بالسينما، وأن تنتقل فى نظمها من فن الزجل بحدوده التى اعتبر بها فنا شعبيا مرتجلا قاصرا على المحاورة والمسامرة إلى فن الشعر كما يمثله صلاح جاهين وفؤاد حداد. وهذه فنون ومجالات أتاحت للعامية أن تخرج من حدود الاتصال اليومى والتفاهم العملي، وأن تدخل إلى الثقافة من أبوابها الحديثة الواسعة كما دخلت الفصحى الى الحياة اليومية فى المدارس والمسارح والصحف والبرلمان. وحتى فى المقاهى الشعبية كانت الفصحى لغة حية تتردد على ألسنة الأميين الذين كانوا يستمعون لأم كلثوم ويغنون معها شعر شوقي. وحافظ، وأبى فراس، ورامي، والخيام، وابراهيم ناجي. كما كانوا يستمعون لعبدالوهاب ما لحنه وغناه لأمير الشعراء، وعلى محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل، وبشارة الخوري، وإيليا أبو ماضي، وأحمد فتحي. فى سنوات الصبا الباكر، أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات كانت البرامج الاذاعية متعة لايحصل عليها القرويون إلا فى المقهى الذى كان يتحول بكل من فيه إلى آذان صاغية. الشبان المتعلمون والفلاحون الأميون والنادل المرح الذى كان يتحرك بين الموقد حيث تعد المشروبات وموائد الجالسين وعلى يده الصينية يتراقص بها يمنة ويسرة وصعودا وهبوطا وهو يغنى مع عبدالوهاب: أنا هيمان وياطول هيامي/ صور الماضى ورائى وأمامي! ما الذى حدث بعد ذلك؟ الذى حدث بعد ذلك أن مناخ النهضة الذى ازدهرت فيه الفصحى والعامية تغير وفسد. لقد تحققت النهضة المصرية بركنين أساسيين هما: النخبة المثقفة التى انفتحت على العصور الحديثة وتبنت مبادئها. فالنهضة ثقافة جديدة فى المقام الأول. والركن الآخر هو الحريات العامة وخاصة حرية التفكير والتعبير. وقد انهار هذان الركنان فى العقود الستة الأخيرة فانهار كل شيء. توقف العمل بالدستور، وأصبح النشاط السياسى محظورا، وزيفت الانتخابات، واضطهدت المعارضة، وفسد التعليم، وتراجعت الثقافة، وأصبحت العامية هى المفضلة لدى الحكام الجدد لأنها تقربهم من عامة الناس دون أن تكلفهم جهدا أو تلزمهم باحترام المبادىء والقيم الفكرية والسياسية التى ترسخت فى الفصحي. ولأن العامية، أصبحت لغة الحكام أصبحت أخيرا لغة الوعاظ، وقفزت إلى الصفحات الأولى فى الجرائد اليومية. ولأنها انفردت بالساحة تراجعت هى الأخرى وانحطت. ونحن نعرف أن الفصحى ظلت هى اللغة الرسمية التى تستخدم فى دواوين الحكومة وفى التعليم والصحافة والاذاعة. لكنها كانت فى هذه المجالات كلها مطية لترويج الأكاذيب وإخفاء الحقائق مما زاد فى محنتها وزعزع ثقة الناس فيها واحترامهم لها. ومن هنا ظلت تفسد وظلت تتراجع حتى وصلت إلى الحال التى نراها فيها الآن. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي