أواصل اليوم حديثى عن الشاعر اللبنانى سعيد عقل الذى رحل أواخر الشهر الماضى بعد أن ملأ الدنيا، وشغل الناس بشعره ونثره وبحياته التى امتدت عامين بعد المائة، وبمواقفه الفكرية والسياسية التى اتسمت بالتطرف، وصدمت الكثيرين، وأثارت فى كثير من البلاد العربية ردود فعل سلبية باعدت بينه وبين الجمهور الذى قاطعه شاعرا، كما قاطعه سياسيا... وقد حدثتكم فى مقالة الاربعاء الماضى عن المناخ العام الذى عاش فيه سعيد عقل، وعن الظروف التى ذهبت به إلي، حيث ذهب، فلم يكن محقا دائما، ولم يكن حكيما، واليوم أحدثكم عن سعيد عقل الشاعر الذى آن لنا أن نتعرف عليه بعيدا عن رأينا فى سعيد عقل السياسي، وسوف نبدأ بمناقشة سريعة لهذه المسألة التى كانت موضوعات لتساؤلات بعض من تفضلوا بقراءة مقالة الاربعاء الماضي. هل يمكن الفصل بين شعر الشاعر ومواقفه السياسية؟، ومن المؤكد أن الشعر شكل من أشكال التعبير، وأن النشاط السياسى شكل آخر، والإنسان يعبر عن نفسه بالشعر وبالسياسة، وبغيرهما من أشكال النشاط، واختلاف شكل التعبير لا يعنى أن الشخصية انقسمت على نفسها أو تعددت إلا إذا كان المعنى المقصود هو تغير المناخات، وتعدد الحالات التى ينتقل فيها الإنسان من الحيرة إلى الاستقرار، أو من ضبط النفس إلى الاستسلام للانفعال، والشعر نشاط له شروط تختلف اختلافا جوهريا عن النشاط السياسي. الشعر إبداع يمارسه الشاعر، وهو فى عزلة عن غيره، وهو حر يمتلك نفسه ويمتلك أدواته، ويخاطب فيه البشر جميعا ويطلب فيه الجمال، أما السياسة، فنشاط مشترك يمارسه الإنسان مع غيره من المواطنين، وهى أفعال وردود أفعال يتعرض صاحبها للاغراءات والمخاوف ويتأثر بظروف الواقع، ويسعى لتحقيق النجاح العملي، وعلى هذا الأساس نميز بين سعيد عقل السياسى وسعيد عقل الشاعر. هذه المسافة الفاصلة بين النشاط الابداعى والنشاط السياسى ليست ثابتة، وليست واحدة عند كل الذين جمعوا بينهما، فالسياسة حين تكون نضالا وتضحية فى سبيل المبدأ غير السياسة، حين تكون سعيا للوصول إلى السلطة، كما أن الشعر حين يكون ابداعا خالصا غير الشعر حين يكون انتظارا لمكافأة أو بحثا عن مكان. والعجيب أن سعيد عقل الذى انخرط فى السياسة العملية بحماسة واندفاع ظل فى الشعر متطهرا يرفرف بجناحيه فوق الواقع يستلهمه دون أن يخوض فيه، وربما وقف فى الشعر على العكس من موقفه فى السياسة، فهو يحارب المنظمات الفلسطينية المسلحة من لبنان، لكنه يغنى بحرارة للقدس، ولحق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى وطنهم، وهو فى السياسة وطنى لبنانى متطرف يتحمس للعامية اللبنانية، ويدعو للكتابة بها وإحلالها محل الفصحى واعتبارها لغة لبنان الرسمية، لكنه فى الشعر فصيح وباحث عن فصاحة متفردة لا يقنع فيها بفصاحة المحدثين، وإنما يسابق القدماء ويحاذيهم بلغة يصل فيها إلى مستويات من النقاء لا يجاريه فيها شاعر عربى معاصر. هذا النقاء الكلاسيكى لم يجعله تقليديا لأنه لا ينقله عن غيره، ولم يمنعه من أن يطعم لغته الفصحى بعناصر من الدارجة اللبنانية تحل فى المكان الذى يختاره لها، فلا نستغرب ولا نشعر بأنها قلقة فيه، بل نرى كأنها صاحبته من الأصل، وأنها أكسبت الفصحى حياة عصرية تحتاج إليها، واكتسبت من الفصحى أناقة ونبالة. ألعينيك تأنى وخطر يفرش الضوء على التل القمر ضاحكا للغصن مرتاحا إلي ضفة النهر رفيقا بالحجر علّ عينيك إذا آنستا اثرا منه عرى الليل خدر ضوؤه إما تلفت دد ورياحين فرادى وزمر وأنت تقرأ هذه القصيدة وعنوانها «ألعينيك؟» فترى فيها صاحبة العينين، ولكنك ترى بالمثل هذا القمر الذى يفرش الضوء على التل، فلا تدرى أيهما استدعى الآخر العينان استدعتا ضوء القمر؟ أم أن ضوء القمر الذى يضحك للغصن، ويتمسح بضفة النهر ويترفق بالحجر هو الذى استدعى العينين؟ أم أن سعيد عقل هو الذى استدعاهما معا، لأن سعيد عقل يملك الأداة التى يستدعى بها العالم، وهى الشعر، وهى تلك اللغة التى يصعب عليك أن تردها لمصدر واحد، لأن فيها من تراث لبنان القديم والحديث، الفينيقى والعربي، المحلى والأجنبي، ولأن فيها من لغة الجاهليين، ومن لغة المتصوفة، ومن لغة القرآن، وأنا فى حديثى هذا عن اللغة لا أتحدث بالطبع عن مفردات فحسب، بل أتحدث عن المفردات والتراكيب، وعن الافكار والرؤي، وعن التقرير والتصوير، وعن الوزن والموسيقي، وسوى ذلك من العناصر التى لا نستطيع أن نحيط بمصادرها، وإن دلتنا القصيدة على رحابتها وغناها، وتمكن الشاعر منها وامتلاكه لها. المفردات فى هذه القصيدة من الشائع المتداول، لكن فيها من القديم المهجور الذى يطيب للشاعر أن يستخدمه، ويعيد له الحياة، كما نرى مثلا فى كلمة «دد» التى تدل على اللهو واللعب، كما هى عند سعيد عقل، وإن كان لها معنى آخر فى معلقة طرفة بن العبد التى يقول فيها: كأن حدوج المالكية غدوة خلايا سفين بالنواصف من دد، فهى هنا اسم مكان، وإذا كانت المفردات فى شعر سعيد عقل من الشائع المستعمل، فالتراكيب فى هذا الشعر جديدة وفصيحة فى الوقت ذاته، فصيحة لكنها مطعمة، كما قلت بعناصر مستمدة من العامية اللبنانية، كما نرى فى قوله فى إحدى قصائده «ما الحسن؟ ما اللون فى العشايا، لو ما طفرنا على التلال؟» فالفصحى تقول عادة «لو لم نطفر» أما الدارجة اللبنانية فتقول «لو ما طفرنا» والدارجة تستخدم هنا فى محلها، لأن الشاعر يستدعى صورة للتدفق العاطفى والمرج الطفولى تتجسد بهذا التعبير الدارج الذى نشعر بأنه فى مكانه لأن العبارة متصلة متدفقة، فالنظم سليقة أو طبيعة لا تكلف فيها، والتدفق دليل على صدق العواطف والاحاسيس التى يعبر عنها الشاعر، وعلى امتلاكه للغة التى يعبر بها، وهو إذن تدفق محسوب يسيطر عليه الشاعر، ويتحكم فيه ويخضعه لارادته. انظر إلى مطلع القصيدة، قصيدة «العينيك؟» كيف تشكل من كلمة بعد كلمة حتى جاء الفاعل فى آخر البيت بعد الفعل بخمس كلمات، فصلت بينهما ووصلت أيضا بينهما، والفاعل فى المطلع هو القافية التى فاجأنا بها الشاعر لأنه يتحدث عن كائن نظر للعينين الجميلتين، فأطال النظر، وتأنى وخطر، وإذن فالشاعر يتحدث عن عاشق محب ظننا أنه من بنى البشر، لكننا فوجئنا بأن هذا العاشق هو القمر الذى لم نستكثر عليه أن يقوم بهذا الدور لأن الشاعر رشح له أو مهد له طريقه بالحديث عن ضوئه الذى فرشه على التل، وإذن، فمن حقه أن يكون هو العاشق. وهناك شعراء لا تسعفهم العبارة، وإنما يلهثون وراءها يمسكون بها كلمة بعد كلمة، فتفقد العبارة حرارتها، وتبتعد الكلمات فيها إحداها عن الأخري، فنشعر بأنها مستعارة مغتصبة، وأن الشاعر لا ينظم قصيدته بالجمل، بل ينظمها بالكلمات. أريد باختصار أن أقول إن سعيد عقل شاعر كبير، وقد آن الأوان لنتعرف عليه. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي