كلمات قليلة تصوغ «حالة القارة الأفريقية» عقب استقلالها «غير الكامل»، فكلمات الصراع والانقسام على أسس عرقية ودينية واقتصادية وسياسية وحدودية هي ملخص لأحداث كثيرة وقعت على صعيد علاقات الدول الأفريقية ببعضها، كما بلورت كلمات «صراع العرق والطبقة» طبيعة الصراع الذي وقع بين العرب والأفارقة والذي حرص المستعمر منذ قدومه للقارة على إرسائه باتباع خطوط الوجود العربي في السياسة بإظهار العرب كغُزاة وطبقة منفصلة متعالية على المجتمع واسترقتْهُ واستولت على موارده، وحرص على إظهار الثقافة العربية والإسلامية التي اختلطتْ بموروث الأفارقة كثقافة عاجزة عن مواكبة تطورات العصر. ............................................. ومن ثم أثرت هذه الأفكار على العقل الأفريقي، وساءت علاقات الأفارقة بالعرب، ليس فقط ساكني الدول العربية، وسكان الدول الأفريقية الذين يمثلون جزءا من نسيجها السكاني، وأوصلت هذه السياسة الأوضاع إلى حدِ الانفجار في بعض المناطق التى اختلط فيها العرب بالأفارقة، والمؤسف أن نجد عيدا قوميا يحتفل بانتصار الأفارقة على العرب ويمجد أحداثا عرفت باسم ثورة زنجبار أو«ثورة العرق والطبقة»، التي وقعت فى عام 1964. وهي بمثابة دراسة حالة لسياسة عامة قصدت فصل العرب عن الأفارقة. ومجتمع زنجبار قبل قدوم المستعمر البريطاني البغيض كان يعيش حياة هادئة لم تشهد يوما أي تشاحن لأسباب عرقية ولا طبقية فقد انسجم الجميع تحت هوية واحدة هي السواحيلية، حتى بدأ المستعمر البريطاني بتأجيج مسألة الأصل العرقي وتغاضى عن حقيقة أنه مجتمع متتعدد الأعراق، يشترك في اللغة، وربط ما يتحصل عليه الفرد من مزايا بهذا الأصل، وقام بتقنين توزيع المواد الغذائية فى أثناء فترة أزمة النقص الحاد في المواد الغذائية على أساس الانتماء العرقي. وربط فرص التعليم والوظائف بهذا الأصل. وركز ملكية الأرض في مجتمع زراعي بأيدي السكان ذوي الأصول العربية، وحرم بقية طوائف المجتمع من هذا الحق. وبجانب هذا الخلاف العرقي كان لابد من أزمة اقتصادية طاحنة تعصف بما تبقى من وفاق بين طوائف المجتمع، وقد نتجت الأزمة الاقتصادية في زنجبار بسبب الاعتماد على محصول واحد فقط وهو القرنفل في كافة النشاطات السكانية، وكان انخفاض سعر هذا المحصول في الأسواق العالمية سببا في أزمة عاصفة أطاحت باستقرار المجتمع، حيث رأى الأفارقة الأصليون في شركاء الأرض من أفارقة البر الرئيسي عبئا يزاحمهم في الحصول على الموارد الضئيلة، وأرادوا عودتهم لبلادهم، بينما رأى أفارقة البر الرئيسي أنفسهم أصحاب الأرض وأن الغرباء العرب غير الأفارقة عليهم العودة لبلادهم وترك الموارد لأصحاب الأرض، ومن هنا تغلف الصراع الاقتصادي بغلاف عرقي. ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي صياغة هذه التناقضات العرقية والاقتصادية في صورة أحزاب سياسية، فتأسس الحزب الوطني الزنجباري الذي اعتبر حزب العرب، والحزب الأفروشيرازي الذي كان يمثل مصالح الأفارقة، وأصبحت المعارك الانتخابية بين الحزبين هي حرب بين طوائف الشعب، الذي كان يجد في انتصار أحد الفصيلين ووصوله للسلطة نهاية الآخر، ويمثل الصراع صورة مصغرة لمذبحة حتمية الحدوث في المستقبل. وكانت النقطة التي عجلت بوقوع الثورة في زنجبار هى ارتباط الحزبين الكبيرين بالقوى السياسية الإقليمية والعالمية؛ فعلى المستوى الإقليمي أوجد رحيل الاستعمار من أفريقيا فراغا، أدى لاختلال التوازن الإقليمي، وحدوث منافسة بين الدول القومية الناشئة لملئ الفراغ المنبثق عن زوال الاستعمار، وأصبح التنافس السياسي الإقليمي أحدى سمات النظام الفرعي الجديد في أفريقيا، فتوافق الحزب الوطني الزنجباري مع الدوائر السياسية المصرية التي كانت تؤيد قيام اتحاد يضم دول القارة ككل، بينما ارتبط الحزب «الأفروشيرازي» ب «جوليوس نيريري» رئيس «حزب تانو» في تنجانيقا، والذي كان يتبنى أفكار إقامة وحدة بين دول شرق أفريقيا. على جانب آخر كان وجود القوى الشيوعية العالمية في زنجبار، واضطلاعها بدور في تطور الصراع السياسي، من خلال الجناح اليساري في الحزب الوطني الزنجباري والذي انشق وأسس حزب الأمة وكذلك تيارات اليسار داخل حزب الأفروشيرازي، والذين ضموا إلى صفوفهم كل الفئات التي سئمت المعالجةَ السياسية للحزبين الكبيرين، وأصبحت هذه الفئات وشيكة القيام بردة فعل تعبر عن سئمها من عدم حدوث تطورات حقيقية. وأمام هذا الغليان الداخلي، تهددت مصالح كل من بريطانيا والولايات المتحدة في منطقة المحيط الهندي، حال قيام فئة من الفئات الساخطة على النظام القائم، بقلب نظام الحكم لصالحها واحتمال قيام القوى الشيوعية بدور فيه، أو استمرار النظام القائم برئاسة الحزب الوطني الزنجباري المتوافق مع توجهات السياسة المصرية برئاسة جمال عبد الناصر، ومن ثم كان حتمًا التخلص من تهديد وقوع أحد الاحتمالين. فكان حتمًا التخلص من النظام القائم الذي يهدد مصالحهم، وإيجاد نظام بديل يعارض هذا الاتجاه، ومن هنا كان تدبير أحداث 12 يناير 1964 التي عرفت ب «ثورة زنجبار» التي وصمت علاقات العرب بالأفارقة وراح ضحيتها آلاف. ولم يكن المقصود بالأحداث فقط إثارة العرب على الأفارقة، فالمتمعن يجد أن بريطانيا استخدمت كافة تفاصيل علاقة مصر بزنجبار وحكومتها لتنصب شركا محكما لمصر داخل القارة الإفريقية ككل وليس زنجبار فقط، فلا أحد ينكر مخاوف بريطانيا من الحضور القوي لمصر في القارة فقد كان نموذج الثورة المصرية 1952 بما قدمت من سياسات إصلاح زراعي وإعادة توزيع على الفلاحين المعدمين، وتأميم البنوك والصناعات الكبرى، وتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 أمرا ملهما لكل الأفارقة وكان بمثابة إعلان لحق أفريقيا في مواردها الذاتية. كما كان دعم حركات التحرر وإطلاق الإذاعات الموجهة من القاهرة إلى شركاء القارة كل بلغته لتحارب بريطانيا وسياستها الاستعمارية؛ سببا في نقمة بريطانيا على مصر. وكان مسلك «علي محسن البرواني» ب«الحزب الوطني الزنجباري»، الذي حاول أن يكون مثل «عبد الناصر» فى زنجبار، برفع شعار معاداة الإمبريالية، وعمل إصلاحات ديمقراطية تهدف لإنهاء الصراع القائم بين العرب والأفارقة على أسس سياسية، فهدّد مسلكه هذا المصالح البريطانية في زنجبار وشرق أفريقيا ككل؛ خشية انتقال عدوى معاداة الاستعمار إلى بقية الحكومات الأفريقية، وهو الفكر المرتبط بجمال عبد الناصر ومصر. ومن ثم لزمت ضربة على جانبين للتخلص من الحكومة المتأثرة بالمسلك المعادي لبريطانيا، وتقويض الدور المصري في المنطقة بوضعه بين شقين الرحى، إما بالتدخل لصالح العرب ومن ثم معاداة الأفارقة وانتهاك سيادة أراضيهم بالنظرة العربية المتعالية التي نجحت بريطانيا في زرعها في نفوس الأفارقة، أو ترك العرب ووصم مصر للأبد بالمشاركة السلبية في مذبحة عرقية استهدفت شركاء اللغة والدين من العرب-كما تم تصوير الأمر- وكما صور على صفحات الصحف بأنه السقوط الأخير للعرب في أفريقيا. وجاءت كل التحليلات المُفسرة للدور المصري بخيانة مصر لزنجبار، نتيجة السيئة للسيد محمد فايق مستشار الرئيس جمال عبدالناصر للشئون الأفريقية الذي تآمر مع الرئيس الجزائري «أحمد بن بِلَا» الذي كان بالقاهرة للمُشاركة في مؤتمر قمة جامعة الدول العربية، بتاريخ 13 يناير 1964 لإخفاء الصورة الحقيقية للأحداث، خاصة في ضوء ما راج عن قتل الزنجباريين بالأسلحة التي كانت على متن «السفينة الجزائرية بن خلدون» والتي كانت في طريقها للجنة تحرير المستعمرات، وأن العلاقات بين مصر وزنجبار كانت جيدة وتصل إلى حد الاتفاق على إقامة قاعدة عسكرية مصرية في زنجبار، والاتفاق على توقيع اتفاقية دفاع مشترك لولا تآمر المحيطين بالرئيس جمال عبد الناصر. كانت هذه الاتهامات هي محور التساؤلات التي طرحتها على السيد «حلمي شعراوي» بمكتب الشئون الأفريقية برئاسة الجمهورية، ومسئول بيت شرق إفريقيا: «لماذا توانى المحيطين بالرئيس عبد الناصر في إبلاغه بالخبر ومغالطته في توضيح الأحداث التي وصمت صورة مصر وحملتها تبعة ذبح الآلاف في زنجبار؟»، وأوضح شعراوي أنه: «اعتاد سماع هذه الاتهامات، وأشار إلى أن نبأ الثورة في زنجبار قد وصله عن طريق سفير زنجبار بمصر السيد «أحمد اللمكي»، الذي حضر إلى منزلة الساعة الواحدة صباحا ليلة الثورة، وأبلغه بما يحدث في زنجبار وطلب منه الاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر، وأن السيد «حلمي شعراوي» لم يكن منه إلا أن اصطحب اللمكي لمنزل السيد محمد فائق مستشار الرئيس للشئون الإفريقية، الذي وعد اللمكي بإبلاغ الصورة للرئيس في الصباح بعد قليل من الساعات. ويستكمل السيد «محمد فائق» الرد على الاتهامات فيقول: «إنه لم يكن بيده إطلاقًا إخفاء الخبر عن الرئيس، فالخبر كان مُذاعا ومن ثم شبهة إخفائه أو تأخير إبلاغه للخبر هو أمر مردود عليه خاصة وأن إذاعة BBC البريطانية كانت أذاعت الخبر تقريبا في لحظة وقوعه، والرئيس جمال عبد الناصر كان متابعا جيدا لBBC. وأهم التساؤلات التي طرحتها على السيد «محمد فائق»: كيف كان رد الفعل الأول للرئيس عبد الناصر وهل طرح فكرة التدخل العسكري في ضوء ما انتشر عن اتفاقية دفاع مشترك مع زنجبار؟» فأجاب: «بأنه أبدى الكثير من الانزعاج لما راج عن حرب بين العرب والأفارقة. وكان من الصعب طرح فكرة التدخل العسكري لصعوبة حال الجيش المصري في اليمن، كما أن الرئيس كان على وعي بالمؤامرات الانجليزية التي تحاول الإيقاع بمصر في صراع أساسه العرب والأفارقة كما حدث من قبل في مسألة «ساحل ممبسه» الذي كان سكانه من العرب وكان يريد الانفصال عن كينيا وربطت تحقيق هذا المطلب بموافقة مصر، وهو الأمر الذي أدركته السياسة المصرية. ومن ثم كان الحل الدبلوماسي هو أكثر الحلول واقعية في ذلك الوقت، خاصة وأن الأمور سارت بسرعة كبيرة، وتم التخلص من السلطان وحكومته وأعلن مجلس ثوري لقيادة زنجبار في عدة ساعات من المساء للصباح، وصار من المستحيل إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وسافرت إلى زنجبار في نفس أسبوع وقوع الثورة». وأما ما انتشر عن اتفاق مصر على إقامة قاعدة عسكرية في زنجبار، وعقد اتفاقية دفاع مشترك، وتدريب الجيش الزنجباري، هو أمر عار تمامًا من المصداقية، فلم يكن في الفكر المصري مسألة إقامة قواعد عسكرية، ولم يكن مطروحًا على الإطلاق، ولاحتى مسألة الدفاع المُشترك، ولم يتم حتى مناقشة مثل هذا الأمر، كل ما تم مُناقشته، كيفية المُساعدة الاقتصادية، وفي هذا الصدد كانت هناك فكرة قرض بنصف مليون جنيه _ الجنيه وقتها كان أعلى سعرًا من الدولار_ لبناء فندق كبير في زنجبار، فهي لم يكن بها فنادق، وأما ما يخص دور الجزائر فهي لم يكن لها تواجد بشرق أفريقيا يدعوها للتدخل سلبًا أو إيجابًا. وهنا كانت ثورة زنجبار شركاً محكم الصناعة لضرب أطراف عدة بحجر واحد، فكان ضرب العلاقات التاريخية بين العرب والأفارقة أكبر الأهداف، وتحجيم دور مصر في القارة الأفريقية، وإفساد علاقاتها عربيًا بوصفها الخائن الذي ترك أشقاءه فريسة حرب عنصرية، ثم التخلص من شبح الشيوعية اللائح في الأفق في زنجبار وشرق أفريقيا، ومن ثم المحافظة على المصالح الاستراتيجية للقوى الاستعمارية السابقة في صورة جديدة.