فاز إيمانويل ماكرون فى المرحلة الثانية والحاسمة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد أن صوت 66٫1 % بالمائة من الفرنسيين لصالحه وفق النتائح النهائية التى أعلنتها وزارة الداخلية الفرنسية يوم 8 مايو2017. والسؤال الذى تردد صداه الآن فى الشرق الأوسط والعالم العربى على وجه التحديد مع بداية «العهد الماكرونى» هو: ما طبيعة التوجهات التى سيتبناها سيد الإليزيه الجديد تجاه الشرق الأوسط والعالم العربى خلال أعوام رئاسته لفرنسا؟ والإجابة غير محسومة حتى الآن فهناك من يرى أن ماكرون سيتمسك بما جاء بتصريحاته وما قالت به أفعاله أثناء الحملة الإنتخابية. ولكن هناك من يشكك فى ذلك مستندا إلى إمكانية تغيير إيماءات ووعود المرحلة الانتخابية نتيجة لعوامل تفرض نفسها فى ساحة الأمر الواقع. أما الأهم من ذلك فهى حقيقة أن نظرة ماكرون، المالية الإستثمارية بحكم الخبرة السابقة، وأسلوب تعامله مع الشرق الأوسط والعالم العربى تحديدا لاتنحصر فى حيز السياسة الخارجية فقط وإنما ستتأثر أيضا وبقوة بعناصر الاقتصاد والتجارة والجغرافيا السياسية والإستراتيجية وسياسة الطاقة والأمن فى قلب فرنسا ذاتها. لقد أدرك ماكرون ارتباط مصالح بلاده بالمنطقة منذ البداية وهو ما عبرت عنه زيارته أثناء الحملة الانتخابية لكل من الجزائروتونس ولبنان والأردن. ولكن من المؤكد أن نظرة ماكرون، المالية الإستثمارية بحكم الخبرة السابقة، تقول بتفضيله لبقاع بعينها تمثل العون المثالى له. أولا: من المؤكد أن الحرب ضد الإرهاب ستكون لها الأولوية فى أجندة ماكرون خاصة بعد الهجمات التى طالت بشكل متكرر قلب باريس وهددت أمن البلاد. وبدا من الواضح منذ وقت مبكر أن المشاركة العسكرية فى الحرب ضد الإرهاب بوجه عام وضد تنظيم «داعش» فى العراقوسوريا ستستمر. فبعد إعلان فوزه، أكد ماكرون أن فرنسا «ستبقى فى الصف الأول فى مكافحة الإرهاب، على أرضها وفى التحرك الدولى على حد سواء». ويقول الأمر الواقع بانتشار مايقرب من 4 آلاف جندى فرنسى فى منطقة الساحل والصحراء جنوب منطقة الشمال الأفريقى و1200 آخرين فى الشرق الأوسط فى إطار مكافحة الإرهاب. وصرح وزير الدفاع الفرنسى جان ايف لودريان يوم الثلاثاء 9 مايو 2017 أن بلاده ستواصل التزامها ضد تنظيم «داعش» فى سورياوالعراق فى عهد الرئيس الجديد ماكرون و»ستكون هناك استمرارية فى الالتزام الفرنسى بالتحالف» الذى تقوده الولاياتالمتحدة هناك. ثانيا: وفيما يتعلق بالموقف من سوريا يؤمن ماكرون بأن دور فرنسا يجب أن يتحدد تماما ب»بناء السلام» إنطلاقا من رغبة واضحة فى تقليص حجم التكاليف العسكرية والبشرية التى قد تتكبدها فرنسا فى حالة إطالة أمد الصراع المسلح. فتحقيق السلام فى سوريا يعنى لماكرون تمكين اللاجئين من العودة إلى أوطانهم الأصلية ويفتح الباب أمام المزيد من صفقات إعادة إعمار مادمرته سنوات الحرب هناك. وبالتالى فإن أولويات فرنسا كما أشار إليها ماكرون فى وقت سابق تتعلق بمحاربة تنظيم «داعش» أولا وفى ذات الوقت هناك قبول بالحل التفاوضى السياسى للأزمة السورية فلا يرى ماكرون (حتى الآن ) ضرورة للإطاحة بالأسد كحل للأزمة. ولكنه فى ذات الوقت طالبه بتقديم إجابات على الاتهامات بارتكاب تلك الجرائم أمام المحاكم الدولية. ولا يعارض ماكرون مشاركة بلاده فى عمليات عسكرية ضد النظام السورى، ولكن مع التمسك بأن يكون التدخل تحت مظلة مجلس الأمن الدولى. ثالثا: وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وعملية السلام فى الشرق الأوسط فإن هناك مؤشرات دالة على موقف ماكرون منها وتتمثل فيما يلى: أن لفرنسا ثوابت لن تتغير بشكل كبير، فالحذر كان دائما عنوان التناول الفرنسى للقضية الفلسطينية. فعلى الرغم من التركيز فى الأعوام الأخيرة على إحياء المفاوضات بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى والتمسك بحل الدولتين كأساس لعملية السلام فإن ضغوطا من الولاياتالمتحدة أو إسرائيل «تعرقل» حتى الآن ذهاب فرنسا لما هو أبعد من مرحلة «محاولات إحياء عملية السلام». وعلى الرغم من تمسك ماكرون بحل الدولتين، معتبرًا إياه الطريق الوحيد لتحقيق سلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإنه يرفض ممارسة ضغوط فعالة على إسرائيل، معتبرا أن شعار «مقاطعة إسرائيل» قد تم حسمه داخليا فى فرنسا، وليست هناك عودة إلى الوراء، حيث سبق وأن صدر فى عام 2015 حكم قضائى بتجريم شعار «مقاطعة إسرائيل» قانونيا. كما سبق وأن أعلن إلتزامه وإلتزام بلاده بأمن إسرائيل ولكن بالتوازى مع الإعتراف بشرعية الدولة الفلسطينية، خاصة وأن البرلمان الفرنسى ذاته قد سبق وأن صوت بأغلبية لصالح المطالبة بالإعتراف بفلسطين كدولة. إنه يرى أن الاعتراف الفورى بالدولة الفلسطينية، وفق ما طالب به البرلمان الفرنسى قبل عامين، يزيد من حدة التوتر ولن يكون مجديا. لكنه فى الوقت ذاته يندد بالاستيطان الإسرائيلى وبسياسة نتانياهو التى يعتبرها مخالفة للقانون الدولى. رابعا: فيما يتعلق بالطاقة والخليج العربى فتقول الرؤية الواقعية بأن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لها مصالح تجارية وإستثمارية مباشرة داخل فرنسا، بالإضافة إلى التدفقات المالية الكبيرة لإستثمارات صناديق الثروة السيادية الخليجية التى تستثمر أيضا فى فرنسا. فإذا أضفنا إلى ما سبق الإستثمارات والصادرات الفرنسية إلى السوق الشرق أوسطية والعربية تحديدا والإستثمارات المتعلقة بالطاقة (بترول وغاز) والمسافة القصيرة نسبيا لنقل وتوصيل موارد الطاقة بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جانب وفرنسا الصناعية المتعطشة لموارد الطاقة من جانب آخر مقارنة بالمسافة البعيدة جغرافيا وسياسيا وإستراتيجيا التى تفصل بين فرنسا وروسيا التى تقدم الغاز، فسنجد أن المحافظة على مستوى العلاقات، بل وتحقيق المزيد من التقارب، مع دول الشرق الأوسط وخاصة الدول العربية فى الشمال الأفريقى والخليج العربى ستمثل صفقة رابحة لفرنسا. ولعل خير دليل على ذلك تلك الصفقات التسليحية «الرابحة والمنعشة» لقطاع صناعة السلاح التى عقدتها فرنسا خلال الأعوام القليلة الماضية مع دول الشرق الأوسط والدول العربية تحديدا. وفى ذات الوقت يميل ماكرون إلى اتباع سياسة أكثر توازنا مع إيران التى تمثل سوقا واعدة لفرنسا ومنتجاتها إلى جانب كونها مصدرا هاما للطاقة وقوة إقليمية فى منطقة الخليج تحديدا وفاعلا مؤثرا على المستويين السياسى والعسكرى فى العراق ولبنان وسوريا حيث يتواجد نشاط عسكرى وسياسى فرنسى للمحافظة على مصالح فرنسا فى المنطقة وحماية قلب فرنسا من الإرهاب الذى طال أراضيها. خامسا: وفى المغرب العربى هناك مؤشر واضح وبارز لعلاقة فرنسية جيدة مع دول المغرب العربى مسقط رأس آلاف الناخبين الفرنسيين ممن هاجروا إلى فرنسا والوطن الثانى للملايين من أبنائهم ممن صوتوا ضد اليمين المتطرف تكون أكثر اعتدالا ولا تقوم على الوصاية، بل على الاعتراف المتبادل، وتولد هذا التوقع من نتائج الزيارة التى قام بها أثناء حملته الإنتخابية لكل من الجزائروتونس حيث أبدى رغبة فى إنهاء النزاع التاريخى مع الجزائر، ما ينبئ بالتقارب. لقد فاجأ موقف ماكرون الرأى العام الفرنسى بل والجزائرى أيضا، وصرح بأن : « فرنسا ارتكبت جرائم ضد الإنسانية خلال احتلالها للجزائر»، ليصبح أول سياسى فرنسى بارز يقدم هذا الإعتراف الجرئ، وهو ما أثار قبل الانتخابات جدلا واسعا فى فرنسا. وقد وعد بمشاركة أمنية واقتصادية أكثر صلابة بين الدولتين. أما تونس فسيكون الحفاظ على استقرارها هدفا لفرنسا التى تدرك أن استقرار تونس يقلل من مخاطر تعرضها لتدفقات اللاجئين والهجرة غير المشروعة والإرهاب. وهو ذات التوجه الذى يتوقع أن تتبناه باريس تجاه ليبيا إنطلاقا من أولوية مكافحة الإرهاب ووقف تدفقات الهجرة غير المشروعة عبر المتوسط وإن كانت ستتمسك بالعمل تحت مظلة دولية تلافيا لتحميلها بأعباء أو خسائر التدخل المباشر الموسع فى الأزمة الليبية. وهناك توقعات بتقارب فرنسى مغربى هادئ دون تغيرات فيما يتعلق بمواقف فرنسا الثابتة. سادسا: أما تركيا وعلى الرغم من استمرارية عدم الإرتياح الفرنسى تجاه سياسات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فإن المصالح المشتركة التى تجمع فرنساوتركيا فى حلف «ناتو»، والحرب ضد الإرهاب، والميدان السورى والعراقى، وشرق البحر المتوسط ستفرض الطابع البراجماتى على «جوهر العلاقة» البينية. وهكذا وباختصار ستكون بوصلة العلاقة الفرنسية مع المنطقة بوجه عام ومع الدول العربية تحديدا موجهة بشكل واضح إلى كل ما يؤمن به ماكرون.