نأتى الآن إلى المبدأ الخامس، وهو المبدأ الذى أكده الإمام محمد عبده، حين ذهب فى وضوح وحسم إلى أن الإسلام قد هدم بناء السلطة الدينية «ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم أو رسم، فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل ولا أن يربط لا فى الأرض ولا فى السماء». هذه الكلمات الجميلة والجذرية لا تتعدد معانيها، وإنما هى لازمة أو نتيجة للمبادئ السابقة، وهى تؤكد أن الإسلام لم يكن فيه كهنوت أو سلطة الكنيسة التى عرفتها أوروبا أو لا تزال تعرفها– على الأقل- بالمعنى الرمزي. ويعنى هذا المبدأ الذى أكده الإمام محمد عبده مرارا وتكرارا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان مبلغا ومذكرا، لأن المبلغ الأصلى هو الله سبحانه وتعالى بواسطة كلماته التى كان الرسول يتولى إبلاغها والتذكير بها. وهو الأمر الذى يعنى أن العلاقة بين الله والإنسان هى علاقة مباشرة، وأن التكليف فى الإسلام هو تكليف فردي، يقع على الفرد وليس على الجماعة بواسطة جماعات أخري، أو بتوسط مؤسسة من المؤسسات، حتى لو ادعت هذه المؤسسة صفة دينية. ولذلك نقرأ قوله تعالي: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَي بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. مَّنِ اهْتَدَي فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي، ......». (سورة الإسراء/ الآيات 13: 15)، وهى آيات واضحة فى تحديد العلاقة بين الفرد وربه، وهى علاقة لا تتوسطها أية سلطة أيا كان نوعها. ولذلك فلا سلطة دينية فى الإسلام. وللأسف، فإن الأزهر يدعى لنفسه هذه السلطة منذ سنوات، وقد ساعدناه عليها فى زمن الإخوان وتوابعه، كما ساعدنا السلفيين الذين لم يتورعوا عن توجيه أفراد أو تشكيل جماعات باسم «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، كما يحدث فى بعض الأقطار السلفية، وأقحمنا الدينى فى المدنى على مستويات كثيرة، كما لو كنا نحاكم عقائد الناس، وتركنا تهما باطلة مثل «ازدراء الأديان» معلقة كالمقاصل على الرقاب، متباعدين عن سماحة الإسلام وحسن الظن بالمسلمين. وهكذا وجدنا من يزعم أن الأزهر سلطة دينية، ويعطيه من السلطات أو يعطى لنفسه ما ليس له أو فيه، وما ليس سلطة على الإطلاق، فالأزهر معهد دينى ومؤسسة علمية، وبسبب إدراك السابقين علينا من المتأثرين بأفكار الإمام محمد عبده قاموا بإلغاء ما كان يسمى بهيئة كبار العلماء حتى لا يقع فى نفوس المسلمين وهم وجود سلطة دينية، تمارس نفوذا على المسلمين يوازى نفوذ الدولة أو يكون أعلى منها، أو موازيا لها فى حال ضعف الدولة، أو تمسح الاستبداد فى الدين، عملا بالمبدأ القديم: «الملك بالدين يبقي، والدين بالملك يقوي». وهو أمر يعنى أنه ليس من حق أى مجموعة، مهما كان اسمها أن تتوسط بين العبد وربه، أو أن تفرض على العبد ما لا يجوز أن تفرضه عليه. ولكن شيوع السلفية والوهابية وازدياد تأثيرهما فى الأزهر، بعد اختراق الإخوان له، أشاع مجددا مفهوم السلطة الدينية، وجذب هيئة كبار العلماء إلى غوايتها، فزعموا لأنفسهم سلطة دينية موازية لسلطة الرئيس المدنية (راجع بيان هيئة كبار العلماء بشأن الطلاق الشفوي). وهو بيان يحيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى سلطة، وينقل عن بعض الأقطار النفطية تحول هذا المبدأ إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة التى زعمت لنفسها مسمى دينيا على غير أساس من الدين أو مبادئه التى نتحدث عنها، والتى نرى أنها مبادئ أولية وضرورية على طريق تجديد الفكر الديني. ويترتب على هذا المبدأ الأخير المبدأ الذى أسميه بمدنية الدولة، معتمدا فى ذلك على ما تضمنته أفكار الإمام محمد عبده ومفاهيمه، خصوصا فى أبعادها السياسية التى صرح بها وأوضحها وضوحا حاسما تلميذه على عبد الرازق، حين نشر كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، مؤكدا أن الإسلام لم يستحسن شكلا بعينه من أشكال الدولة، وأنه ترك للمسلمين حرية اختيار الشكل السياسى للحكومة التى تحقق العدل والحرية والحياة الكريمة للمواطنين جميعا بلا استثناء. وكان كتابه هذا هو الكتاب الذى حاكمته هيئة كبار العلماء فى الأزهر سنة 1925، وحكمت بسحب شهادة العالمية من صاحبه وحرمانه من حق أن يعمل فى أى وظيفة من الوظائف فى الدولة المصرية، وكأنها كانت بهذا الحكم تسترجع واحدة من خصائص محاكم التفتيش فى العصور الوسطي، وتكرر جريمة «الحرمان الديني». ولكن رغم الظلم المبين التى أوقعته هذه اللجنة على على عبد الرازق، فإن هذا الظلم لم يستمر طويلا، فقد شاعت أفكار الاستنارة، ولم يجرؤ الملك فؤاد على إعلان نفسه خليفة للمسلمين، وسقطت فكرة الخلافة إلى أن عادت مرة أخرى فى السبعينيات، سواء فى فكر الإخوان أو الفكر السلفى الذى لا يزال يلح على مبدأ الخلافة أو ما يلزم عنها. ويبدو أننا إزاء هذه الدعوات، علينا أن نسترجع كلمات الشيخ على عبد الرازق الذى يختم بها كتابه قائلا: «والحق أن الدين الإسلامى بريء من تلك الخلافة التى يتعارفها المسلمون وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست فى شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى إحكام العقل، وتجارب الأمم وقواعد السياسة. كما أن تدبير الجيوش الإسلامية، وعمارة المدن والثغور، ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب أو هندسة المبانى أو آراء العارفين. لا شيء فى الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخري، فى علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذى ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم». هذه الكلمات الحكيمة هى الكلمات التى نرد بها على دعاة أستاذية العالم من الإخوان المسلمين، أو دعاة الخلافة ممن يزعمون أنهم أتباع السلف الصالح، أو غيرهم من الذين يرفعون أعلام الخلافة إخفاء لنزعات استبدادية جديدة. ومن المؤكد أن نفى فكرة الخلافة واستبعادها يعود بنا إلى مفهوم الدولة المدنية القائمة على العدل والحرية، ومن ثم الفصل بين السلطات، بما يحول دون تسلط واحدة من السلطات على غيرها. والحق أن استبدال مفهوم الحرية بمفهوم التسلط هو البداية فى ذلك. وحسبنا أن نقرأ كتاب الشيخ عبد المتعال الصعيدى عن «حرية الفكر فى الإسلام»، خصوصا حين يبدأ بتعريف الحرية، مميزا بين حريات ثلاث، أولاها حرية علمية، وثانيتها حرية سياسية، وثالثتها حرية دينية، قائلا: إن «الحرية العلمية عبارة عن إطلاق سلطان العلم فوق كل سلطان، لأنه يعتمد فى سلطته على العقل، وقد خلق الله العقل ليميزنا به على جميع مخلوقاته، فإذا أهملنا الاعتماد عليه لم يكن هناك معنى لخلقه فينا، وفعل الله سبحانه وتعالى يتنزه عن العبث، فكل ما خلقه له حكمته التى لابد من استعماله فيها، تحقيقا لمعنى هذه الحكمة، وتنزيها لفعله تعالى عن العبث. وإذا كان هذا شأن العلم وسلطانه، فإنه لا يكون هناك بد من المواءمة بين سلطانه وسلطان الدين، ليعيش كل منهما بجانب الآخر مطلق الحرية، موفور السلطان، ويتعاونا على سعادة الإنسان فى دنياه وأخراه، بدل أن يقف كل منهما فى سبيل الآخر، فيشقى الإنسان باختلافهما، وتضطرب حياته بينهما. والحرية السياسية عبارة عن احترام رأى الفرد فى الحكم بحيث لا تضيع شخصيته فى شخصية الحاكم، بل يكون لرأيه سلطان فيما يراه ولو تعلق بشخص الحاكم نفسه، فيكون له الحق فى معارضة إسناد الحكم إليه، وفى نقد أعماله بالوسائل النزيهة فى النقد. وهنا يبرز سلطان الدين أيضا، لأنه يجب أن يقف بجانب الفرد فى هذا الحق، حتى لا يكون للحاكم عنده سلطان فوق كل سلطان، بل يكون شأنه فى ذلك شأن كل فرد، حتى لا يستبد وحده بالسلطان، وحتى لا يسير فى الحكم بالظلم والطغيان. أما الحرية الدينية فهى عبارة عن حق الإنسان فى اختيار عقيدته الدينية، فلا يكون لغيره من الناس سلطان عليه فيما يعتقده، بل له أن يعتقد ما يشاء، فى حدود ما تبيحه حرية الاعتقاد، من الدعوة إلى ما يعتقده بالتى هى أحسن. فلا يكون لغيره حق استعمال القوة معه فى دعوته إلى عقيدته، ولا يكون لغيره حق استعمال القوة معه فى إرجاعه إلى عقيدته إذا ارتد عنها، وإنما هى الدعوة بالتى هى أحسن فى كل الحالات، وإذا لم يكن لغيره حق استعمال القوة معه لم يكن له أيضا حق استعمال القوة مع غيره، حتى يتكافأ الناس فى هذا الحق، ولا يمتاز فيه واحد بشيء دون الآخر، وإنما هى حرية مطلقة لكل الأشخاص، وحرية مطلقة فى كل الأديان، وحرية مطلقة فى جميع الحالات على السواء». ومن المؤكد أن أغلب الاتجاهات التى تتمسح فى الإسلام، وتغتال الأبرياء باسمه، سوف تنكر هذه الحريات، كما ينكر أكثر المشايخ حرية عقلنا فى أن نستعيد حرية التفكير الديني، والاجتهاد فيه، ونجعل من هذه الحرية الوجه الآخر من الحرية السياسية، خصوصا فى دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحقق للناس أحلامهم فى العدل والحرية والكرامة الإنسانية. ولذلك استبدل المسلمون فى عصرنا هذا بمبدأ الخلافة مبدأ الحكومة التى تنفصل عن الدين، والتى تعتمد على دستور وقوانين وضعية لا توجد بينها وبين الأديان إلا صلة المبادئ الإنسانية التى تنص على العدل والحرية والتقوى وغيرها من المبادئ الكلية. وكان ذلك كله مرتبطا باعتماد مبدأ المواطنة الذى يعنى أن الدين لله والوطن للجميع، وأن المواطنين أحرار متساوون فى أوطانهم بلا تمييز دينى أو عرقى أو اجتماعي؛ فالحكومة اليوم هى حكومة مدنية ديمقراطية حديثة فيما يؤكد القائمون عليها ويعلنون ذلك كل يوم، مؤكدين أنها ليست حكومة دينية، وأن الدين لا شأن له فى قوانينها إلا من حيث هو مصدر لاستلهام المبادئ الكلية الثابتة المحترمة والمقدرة من جميع الأديان. وهو الأمر الذى يجرم– قانونيا ودستوريا- أى شكل من أشكال التمييز بين المواطنين أو حتى التفريق بينهم على أساس من دياناتهم أو حتى مذاهبهم داخل الديانة الواحدة. هذه المبادئ هى مبادئ أولية فى تقديرى لا يمكن أن نؤسس لفكر إسلامى بعيدا عنها، وهى فى تقديرى قاعدة للانطلاق لأى تجديد دينى يمكن أن نتقدم به من أوضاع تخلفنا إلى احتمالات تقدمنا ووعود مستقبلنا. فهل نؤمن بهذه المبادئ ونجعلها منطلقا لتجديد الفكر الدينى من حيث هو دين العقل والحرية والمدنية على السواء؟ هذا سؤال أطرحه على نفسى وعلى من حولى دون فرض أو إجبار، فما أطرحه مجرد اجتهاد قد يصيب أو يخطئ، مثله مثل كل الاجتهادات المطروحة لتجديد الفكر الديني. ويأتى قبل ذلك السؤال الأهم: هل نحن على استعداد لتبعات تجديد الفكر الديني، وما يقترن به– حتما- من تبعات تجديد الفكر العلمى والسياسى والاجتماعي...إلخ. وأخيرا: هل الأزهر على استعداد لأن يتوقف عن ممارسة دور السلطة الدينية التى لم يأمره الإسلام أو يأمرنا بها؟!.