كان الأسبوع الماضى هو أسبوع المناظرات فى فرنسا، وقد اكتمل بالمناظرة الكبرى التى جرت منذ أيام بين المرشحين الرئاسيين إيمانويل ماكرون ومارين لوبن، وهى المناظرة التى قلبت موازين الأمور، فكشفت خواء البرنامج الانتخابى لمرشحة اليمين المتطرف التى كان نجمها قد ارتفع بسرعة فائقة بعد أن تأكد فى جولة الانتخابات الأولى التى جرت فى مارس الماضى أنها هى من بين جميع المرشحين الخمسة للرئاسة التى ستحظى بالمواجهة النهائية مع ماكرون فى الجولة النهائية. ففى الوقت الذى بدا ماكرون المرشح المستقل للوسط الليبرالى واقفا على أرض صلبة من المعلومات، فجاء برنامجه يبعث على الثقة، أضاعت لوبن وقتها فى مهاجمة منافسها بطريقة اقتربت من حد السباب الشخصي، ولم تنجح فى تقديم برنامج يحوز تأييد الناخبين، وقد أشارت استطلاعات الرأى التى جرت بعد انتهاء المناظرة الى تقدم ماكرون بنسبة تزيد على ال60% من الأصوات،. وقد سبقت تلك المناظرة سلسلة مما يشبه المناظرات بين المرشحين التسعة لمنصب مدير عام منظمة التربية والعلوم والثقافة اليونسكو، حيث عقد أعضاء المجلس التنفيذى (58 دولة) فى مقر اليونسكو بباريس جلسة مستقلة لكل مرشح استغرق كل منها 90 دقيقة، استمعوا خلالها أولا الى رؤية المرشح للمنظمة وما ينوى أن يحققه لها.. وقد حرصت على مشاهدة تلك الجلسات، كما حرصت على متابعة المناظرات الرئاسية، لكنى ركزت بشكل خاص على ست جلسات منها، هى جلسات المرشحين العرب الأربعة، بالإضافة للمرشحة الفرنسية أودرى أزولاى وزيرة ثقافة الرئيس المنتهية ولايته فرانسوا أولاند التى دفع بها فى اللحظات الأخيرة قبل ساعات من إغلاق باب الترشيح، بعد أن بدا واضحا تقدم المرشحة المصرية مشيرة خطاب، كما حرصت أيضا على الاستماع الى المرشح الصينى شيانغ تانج الذى تحظى بلاده بنفوذ كبير داخل المنظمة يعود الى المساهمات النقدية الكبيرة التى تقدمها الصين لليونسكو. أما المرشحون العرب فهم الى جانب المرشحة المصرية مرشح قطر وزير الثقافة والسفير السابق فى فرنسا حمد عبد العزيز الكواري، واللبنانية فيرا الخورى لاكوي، والعراقى صالح الحسناوي. ولقد اتضح لى - ولكثيرين غيرى داخل المنظمة - تفوق مرشحة مصر بشكل واضح، حيث جاء خطابها شاملا لكل مجالات عمل اليونسكو ومعبرا عن فهم عميق وواقعى لكيفية إدارتها، وأكثر ما لفت نظر الجميع فى حديثها هو الثقة التى كانت تتحدث بها طوال الجلسة، ورغم تميزالرؤية التى قدمتها فى بداية الجلسة، إلا أن قوتها الحقيقية ظهرت فى التعامل مع الأسئلة التى جاءتها من دول المجموعات الجغرافية المختلفة، فقد ادارتها كلها بحنكة واقتدار، وبالإشارة إلى الاتفاقيات التى عقدتها اليونسكو، كما أشارت - دون إقحام - لخبرتها العملية من خلال عملها داخل الأممالمتحدة أو على أرض الواقع فى بلادها، وفى الوقت الذى لم يبتسم المرشح العراقى طوال جلسته وبدت أزولاى الفرنسية غاية فى البرودة, كان وجه مشيرة طوال الجلسة مشرقا. ولقد جاء حديث الفرنسية ذات الأصول المغربية حديثا لا علاقة له بالعالم العربى الذى كان الاتجاه السائد داخل اليونسكو هو أن الدور عليه هذا العام ليمنح أحد أبنائه الفرصة لتقديم إدارة جديدة لليونسكو، تنبع من رصيد التاريخ الحضارى العربى الضارب فى القدم، وقد وجهت مندوبة المغرب باليونسكو للمرشحة ذات الأصول المغربية سؤالا غير مباشر حول مدى لياقة إغلاق فرنسا الطريق أمام العالم العربى الذى لم يحظ بهذا الموقع طوال تاريخ المنظمة، فى الوقت الذى قادت فيه فرنسا اليونسكو لمدة تزيد على عقد كامل من الزمان خلال حقبة الستينيات الماضية على يد المدير السابق رينيه ماهو، وقد جاء السؤال مفاجئا، فالمرشحة الفرنسية هى سليلة أحد البيوت اليهودية الكبرى فى المغرب، وقد كان والدها أندريه أزولاى مستشار العاهل المغربى الراحل الحسن الثانى ومهندس علاقته بإسرائيل، لكن المرشحة تنازلت مباشرة عن هذه الصفة ببساطة من يخلع قطعة ثياب لا تعجبه، ونفت أن يكون هناك اتفاق أو قانون يحتم تولى العرب الآن إدارة المنظمة، مؤكدة أن اختيار المدير العام يجب ألا يعتمد على جنسية المرشح أو لون بشرته أو ديانته، وإنما على الكفاءة وحدها. والحقيقة أن أكثر من أشار بشكل مباشر الى ضرورة منح العرب الفرصة لإدارة اليونسكو كان المرشحة اللبنانية فيرا الخورى التى كانت أذكى من أزولاى فى ذلك، حيث تحدثت باعتبارها عربية تحمل رصيدا ثقافيا وحضاريا عريقا آن الأوان أن يفسح له الطريق لأول مرة منذ 70 عاما لتقديم خبرته للمنظمة، وهو ما لم يشر اليه من قريب أو بعيد المرشحان القطرى والعراقي، فقد اعتمد المرشح القطرى على خبرته السابقة فى العمل فى فرنسا، وعلى تعامله الممتد عبر السنين مع المنظمات الدولية، وعلى علاقاته فى مجال الأعمال والذى قال إن رجاله على استعداد لتمويل الكثير من مشروعات اليونسكو، بينما بدت خبرة المرشح العراقى محصورة داخل عمله مندوبا لبلاده فى اليونسكو، أما مشيرة خطاب فقد تحدثت عن مصر وتراثها الحضارى. لكنها ركزت على إنجازاتها التى تثبت أنها جديرة بهذا الموقع. أما حديث المرشح الصينى فقد جاء متحفظا بعض الشيء، لكنى وجدت لغته الانجليزية سلسة ومفهومة على غير العادة، فقدم رؤية تقليدية هادئة للموضوع الذى ورد فى أحاديث كل المرشحين الآخرين، وهو تطوير الجهاز الإدارى لليونسكو وحل الخلافات داخل المنظمة بالحوار. والسؤال الآن هو أين إعلامنا من تلك المعركة المحتدمة التى بدأت الصحافة الفرنسية تتابع تطوراتها؟ أليست مصر طرفا فى هذه المعركة؟ أليس اسم مصر فى اليونسكو معلقا الآن على هذه المعركة فى غيبة من الاهتمام الواجب من الصحافة والإعلام؟ أين القنوات التليفزيونية، الرسمية والخاصة؟ لماذا لا يذيع التليفزيون تلك الجلسات التى تم تسجيلها بالفعل باللغات الخمس الرسمية ومن بينها العربية؟ لماذا لا يطلب التلفزيون هذه التسجيلات من اليونسكو ليذيعها على المواطنين فيتابعو تلك المعركة التى تخوضها مصر بدلا من متابعة وصلات الصياح والسباب التى تمتليء بها البرامج الحوارية؟ لقد دخلت معركة اليونسكو الآن مرحلتها الأخيرة، وهى تتطلب استراتيجية مختلفة تماما عما كان متبعا فى بداية المعركة، لماذا؟ وكيف نديرها؟ هذا هو موضوعنا فى الأسبوع القادم. لمزيد من مقالات محمد سلماوى