منذ اندلاع نيران «الربيع العربي» والتهمامها دول الشرق الأوسط، الواحدة تلو الأخرى، قررت ألمانيا أن تلعب دور الراعى الرسمى ل«الإنسانية» لتصبح قلب أوروبا الدافيء، الذى فتح أبوابه واسعة أمام اللاجئين لحمايتهم ورعاية حقوقهم، ضاربة بعرض الحائط كل المخاوف الأوروبية، وإجماع دول القارة العجوز على ضرورة إغلاق الحدود أمام الحشود المتدفقة من بؤر الصراع على الضفة الأخرى من المتوسط. ولكن يبدو أن هذا القلب الدافيء كان ينبض بعكس ما تروج له الحكومة والنخب السياسية هناك، فالرفض والكراهية لجموع المهاجرين الذين احتلوا أجزاء لا بأس بها من البلاد وأشاعوا الفوضى خلال الاحتفالات وأفسدوا الأجواء الآمنة، بل وأصبحوا يمثلون تهديدا للثقافة الغربية بشكل عام، يبدو أنه تغلغل واستوطن المؤسسة العسكرية الألمانية التى احتضنت واحدة من أخطر الخلايا المتطرفة فى الفترة الأخيرة. فعلى غير المعتاد، اضطرت أورسولا فون دير لين وزيرة الدفاع الألمانية إلى اللجوء للتليفزيون ووسائل الإعلام لاتهام جيش بلادها ب»ضعف القيادة»، بل و»احتضان» خلايا يمينية متطرفة، وذلك عقب الكشف عن واقعة ضابط جيش سجل نفسه كلاجيء سورى فى 2015، وخطط لارتكاب سلسلة من الجرائم ضد مجموعة من رجال الدولة والسياسيين المخضرمين من بينهم وزير العدل الحالى والرئيس السابق يواخيم جاوك، حتى تبدو وكأنها هجمات يشنها مهاجرون أو مسلمون! وفى الوقت الذى تمكنت فيه السلطات الألمانية من إحباط مخططه الإرهابي، تم ضبط جندى آخر وبحوزته متفجرات، لتكتشف أنهم فى واقع الأمر جزء من خلية يمنية متطرفة داخل الجيش الألمانى كانت تسعى لتنفيذ موجة من الاغتيالات والعمليات المسلحة. ويبدو أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد بدأت الأقنعة فى السقوط تباعا عندما كشفت وسائل الإعلام عن وقائع «سادية» داخل أروقة الجيش، تتم تحت مرأى ومسمع من القيادات التى قررت التغافل عنها، وهذه الوقائع تتراوح بين سوء معاملة لمجندين أو إخضاعهم لعقوبات قاسية ومشددة. واعترفت الوزيرة الألمانية بأنها تتحمل مسئولية هذه التجاوزات، مشيرة إلى أنها كان ولابد أن تحقق أكثر عمقا فى الوقائع، التى اعتبرتها فردية أو شخصية فى وقت ما، ليتضح فيما بعد مدى توغلها فى مؤسسة الجيش، والتى من المفترض أنها الدرع الواقى للبلاد. ووفقا لموقع «دويتش فيله» الألماني، فإنه يجرى التحقيق الآن فى نحو 275 حالة اشتباه فى الانتماء للتيار اليمينى المتطرف داخل الجيش، سواء من خلال سلوكيات مشبوهة أو تعليقات متطرفة على مواقع التواصل الاجتماعى أو مخاوف من انضمامهم لخلايا إرهابية. وعلى الرغم أنه تم اتخاذ إجراءات سريعة لتسريح بعض الجنود أو فرض عقوبات مالية ضدهم، فإن أكثر ما يثير القلق حاليا هو أن أغلبهم كان يسمح لهم بحمل السلاح أو الحصول عليه، وهو ما يثير المخاوف من احتمالات صعوبة السيطرة على هذا التيار الإرهابى الكامن فى المستقبل، ومن وجهة نظر وزيرة الدفاع الألمانية، فإن أكثر ما يثير القلق هو «هذا التفاهم الضمني» الذى دفع القيادات إلى غض البصر عن مخالفات وجرائم جسيمة. والمثير أن تحركات الوزيرة قوبلت بالاستهجان من قبل الإعلام والنخب السياسية التى رفضت التعميم أو توجيه أى اتهامات لمؤسسة مهمة فى الدولة مثل الجيش، بل واعتبر الإعلام الألمانى أن وزيرة الدفاع هى المذنبة بحديثها عن هذه التجاوزات فى مؤسسة لا يجب التشكيك فيها! ولاحقا، تسببت هذه الفضائح فى إلغاء وزيرة الدفاع زيارتها التى كانت مقررة للولايات المتحدة، وذلك قبل وقت قصير من موعد الزيارة، جراء الضغوط التى تعرضت لها واتهامها بالتقصير، وكذلك لرغبتها فى متابعة التحقيقات عن قرب فى قضية «اختراق» الإرهاب والتطرف صفوف الجيش الألماني. وبالتأكيد، ستكون هذه الفضيحة أصعب ما يمكن أن تمر به ألمانيا فى عام الانتخابات، وهو ما يعنى أن زلزال ترامب والخروج البريطاني، وربما مفاجآت فرنسا، فى طريقها إلى ألمانيا قريبا!