من المضحكات المبكيات أن الإعلام الغربى الذى يصاب بالذعر لدى تعرض ناشط فى مصر لأى مكروه، أو عند مقتل أو اعتقال إرهابي، هو نفسه الإعلام الذى يتعامل بكثير من الاحترام والإجلال والتقدير للقمع العلنى والحقيقى فى تركيا من جانب الرئيس رجب طيب أردوغان ضد معارضيه السياسيين، على أساس أن تركيا دولة لا يمكن المساس بها، وأنها «غارقة» فى الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن تركيا منذ الاستفتاء الهزلى الأخير على دستور أردوغان الشمولى وهى تعيش أجواء أزمة حقيقية، فإن التقارير الإعلامية الغربية التى قامت بتغطية ومتابعة ردود الفعل التركية والغربية على هذه «المهزلة» كانت شديدة الود والتأدب وهى تعرض آراء منتقدى سياسات أردوغان واستفتائه المشكوك فى نزاهته، بشهادة المراقبين الدوليين، ولم تجرؤ وسيلة إعلامية على التعرض لأردوغان وسياساته ودستوره بكلمة واحدة، بخلاف الألفاظ الوقحة التى تتناول بها أخبارا من مصر، علما بأن أردوغان يقمع معارضين سياسيين سلميين بحق، فى حين أن من تواجههم السلطات المصرية ليسوا سوى إرهابيين يحملون السلاح ويرتكبون الجرائم التى يندى لها جبين الإنسانية كلها! شبكة «سي.إن.إن» كانت أكثر «حنانا» و»رقة» فى التعامل مع الاستفتاء التركي، فقد بثت خبرا بتاريخ 18 أبريل بعنوان «المراقبون الدوليون ينتقدون الاستفتاء التركي»، متضمنا تصريحات مقتضبة من المراقبين الدوليين ينتقدون فيها سير الاستفتاء الذى اكتفت الشبكة الأمريكية بوصفه بأنه «مثير للجدل»!! وبحذر شديد قالت الشبكة فى تقرير آخر بثته فى اليوم نفسه إنه إذا كان المعارضون للاستفتاء يرون أنه محاولة من زعيم متعطش للسلطة لتعزيز موقفه - لاحظوا التأدب - فإن مؤيديه يرون ويعتبرون أنه استفتاء شعبى على الرئيس أردوغان الذى قاد بلاده عبر ما يزيد على عقد من الزمان أولا فى منصب رئيس الوزراء ثم فى منصب الرئيس نحو النمو الاقتصادى والتنمية!! ومن جانبها، استعرضت هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» ردود الفعل الأوروبية المنتقدة للاستفتاء التركي، فقد بثت بتاريخ 18 أبريل خبرا بعنوان «الاتحاد الأوروبى يحث أنقرة على إجراء تحقيق بشأن ادعاءات التصويت غير القانوني»، ونلاحظ هنا كلمة «ادعاءات» التى استخدمتها الشبكة البريطانية، كما اهتمت الشبكة فى تقاريرها التى بثتها خلال متابعة نتائج الاستفتاء على فكرة أن النتائج المتقاربة لمؤيدى ومعارضى التعديلات الأردوغانية الجديدة تظهر أن تركيا منقسمة على نفسها أكثر من أى وقت مضي، بينما بثت تقريرا غريبا بعنوان «رجب طيب أردوغان .. الرئيس التركى المشاكس» حول قصة حياة أردوغان وكيف تحول من شخص عادى إلى عملاق سياسى أعاد تشكيل تركيا على نحو لم يفعله أى زعيم آخر للبلاد منذ مصطفى كمال أتاتورك، وأضافت الشبكة بحماس شديد أن نتيجة الاستفتاء تمنح أردوغان الضوء الأخضر لخلق رئاسة قوية بصلاحيات تتمثل فى إمكانية تعيينه للوزراء وعزلهم من مناصبهم واختيار القضاة والحكم بمرسوم إذا رأى أن الضرورة تقتضى ذلك، لاحظوا مستوى «التأدب» أيضا فى هذه الفقرة، وقارنوها بما تبثه وسائل الإعلام الغربية هذه الأيام مثلا عن قانون الهيئات القضائية، وادعاءاتها أنه قانون قمعى يهدف إلى قمع الدولة للقضاء، ووضع السلطة القضائية تحت سيطرة الرئيس عبد الفتاح السيسي! أما وكالة أسوشييتدبرس للأنباء فقد تعاملت مع الاستفتاء التركى بالطريقة نفسها، فقد بثت يوم 21 أبريل تقريرا بعنوان «المعارضة التركية تعترض على التصويت بنعم فى الاستفتاء على تعزيز صلاحيات الرئيس»، تناولت فيه محاولات حزب الشعب المعارض للطعن على نتيجة الاستفتاء لوجود تزوير فيه، ووصفت الوكالة حزب الشعب بأنه حزب المعارضة الرئيسي، متناسية أن هذا الحزب هو المتبقى بعد حملات القمع والتنكيل التى لجأ إليها أردوغان للقضاء على معارضيه الحقيقيين، فى القضاء أو الجيش أو الشرطة أو من المواطنين العاديين، وبخاصة بين صفوف الجيش والأكراد وحركة «خدمة» التابعة للداعية فتح الله جولن، حليفه القديم وخصمه اللدود حاليا، بحيث لم يتبق سوى بعض الأحزاب المعارضة «المستأنسة» التى لا يعيرها أردوغان وحزب العدالة والتنمية أى التفات، ولكنها فى نظر أسوشييتدبرس، حياة ديمقراطية سليمة! أما وكالة «رويترز» فكانت أكثر جرأة فى نقل الصورة الحقيقية لما يجرى فى تركيا، فقد بثت يوم 18 أبريل تقريرا بعنوان «مراقب يعلن عن إمكانية التلاعب بأصوات 2,5 مليون ناخب تركى فى الاستفتاء»، وبثت فى اليوم نفسه تقريرا ثانيا بعنوان «واشنطن تعلن أنها تنظر إلى مخاوف المراقبين الأوروبيين حيال نزاهة الاستفتاء التركى بعين الاعتبار»، ثم بثت لاحقا فى اليوم نفسه أيضا تقريرا بعنوان «بعثة المراقبين الأوروبيين : الاستفتاء التركى لا يرقى إلى معايير المجلس الأوروبي»، كما بثت خبرا بعنوان «فرنسا تحث تركيا على الحوار، وتعلن أن الاستفتاء التركى كشف عن الانقسامات داخل المجتمع». ولكن فى النهاية، ظلت تغطية رويترز فى الإطار المعقول الذى نتمنى أن يكون متبعا عند التعامل مع أحداث مشابهة أو غير مشابهة فى أى دولة أخري، وعلى رأسها مصر!