سلك أردوغان مع الإخوان طريقًا بلا عودة، بالرغم من أنه بدأ جيدًا يؤدى دوره بشكل يثير الإعجاب حتى 2010م قبل ارتباطه بطموحات الجماعة فى حكم الدول العربية بعد 2011م، وهو تاريخ انفصاله عن الخط النورسى التنويرى الذى تزعمه فتح الله كولن. اللافت هنا أن الشراكة التى اعتمدتها الولاياتالمتحدة كانت بين أردوغان وفتح الله كولن وتحدثت دراسات مؤسسة راند ومعهد بروكينجز صراحة عن الترويج للنموذج التركى الحداثى الصوفى التربوى الذى يتبناه كولن، والهدف واضح وهو تقويض الإسلام السياسى الإخوانى والسلفى الجهادى والإيرانى الثورى المقاوم لإفساح الطريق للهيمنة على العالم الإسلامى. كيف حدث التحول إذن، ليمكن أردوغان للإخوان والإسلام السياسى ويحبس ويطارد التنويريين؟ لأن هؤلاء وقعوا فى المحظور وكشفوا التجاوزات فقد تربوا على النقاء والشفافية، أما الإخوان فيجاهدون وراء كل «بر وفاجر»، وطبيعة انتشار الجماعة ستسهل وضع كل الأنظمة العربية المخطط أخونتها تحت مظلة أردوغان والهيمنة التركية، والسلطان الجديد هو أنسب وكيل عمليات إدارة هيمنة؛ فهو مطيع لدرجة نشر شبكة الدرع الصاروخية الأمريكية على أراضيه، ولحد التطبيع الشامل مع إسرائيل، وجلوسه على أريكة الإخوان سيمنحه التحكم فى ريموت حماس ليطفئ زر المقاومة وقتما شاء الحلفاء. جماعة الإخوان لا تفكر سوى فى الانتقام، وتبحث عن قوة تحول دون تكرار العصف بها وتفكيكها بهذه السهولة من جديد، وقادتها يفكرون بعقلية أردوغان التى يخاطب بها الاتحاد الأوروبي، حيث يرون حتمية عودتهم أقوى من ذى قبل لتأديب وعقاب من أقصاهم وهمشهم. إنه بدون مبالغة تحول تاريخى فى سلوك الإسلام السياسى؛ فبعد أن اقتصر نشاطه داخل الدولة الواحدة بالمراوحة بين الأسلوبين الانقلابى الاقتحامى والآخر المشارك المناور، تحول للعمل من خلال دولة خارجية ليغزو بها لاحقًا الدولة الوطنية تحت عنوان «الخلافة»، وهو ما وضح أخيراً فى نموذجى داعش والإخوان مع اختلاف التفاصيل والأدبيات وفارق الخبرات. التجربة اليتيمة الوحيدة الناجحة التحق بها الإخوان فأفسدوها، لتنضم لأخواتها من التجارب الإسلامية فى السلطة التى انزلقت جميعها بلا استثناء إلى القمع والاستبداد والعصف بالمعارضين السياسيين، وتكميم الأفواه كما فى السودان وفلسطين وأفغانستان وإيران، لتفشل جميع الأنظمة «الإسلامية» المعاصرة فى بناء أنظمة ديمقراطية رشيدة. كان المأمول أن تصبح تركيا الجسر والواسطة بين أوروبا والعالم الإسلامى وبمثابة إسفنجة حضارية تمتص كل النقمة الإسلامية على الغرب والعكس، فإذا بها تتحول فى غضون سبع سنوات للنقيض، لتحول بين الشرق والغرب بسور عال من التزمت الأصولي، وتستعيد روح الاستعلاء والثارات، ليؤجل البت فى مستقبل وماهية العلاقة بين الإسلام والحداثة وقيم التسامح والتعايش الإنسانى. لم أتوقع أن يقع الأتراك فى الخطأ القديم بالاعتراف بصفة «الخليفة» ضمنيًا لأحد الملوك أو الرؤساء، لأنهم أول من يدرك قيمة مبدأ الفصل بين الحكم السياسى والسلطة الروحية، وما سببه الخلط بينهما على مدى قرون للإسلام والأمة من أضرار فادحة وكوارث، ليس فقط تجميد النهضة والتقدم ووقف تطور نظم الحكم والفقه الدستورى الإسلامى والانزلاق نحو الاستبداد السياسى واضطهاد أتباع الأديان والمذاهب والأحزاب الأخرى وتهميشهم وعزلهم، إنما أولًا لعلمهم بما يمثله ذلك للقوى الأجنبية اللدودة؛ فما دام أحدهم قد أعلن أنه صار ممثلًا سياسيًا للإسلام وليس لتركيا فقط فسيصبح صيدًا سهلًا للتلاعب بالدول الإسلامية من خلاله بالنظر لحالة الضعف التى تمر بها الأمة، وللخبرة التاريخية بهذه الحالة التى تسببت سابقًا فى سقوط الدول العربية فى قبضة الاستعمار والانتداب والوصاية. أجزم بأن ما حدث للأتراك وأردوغان وحزبه من انهيار وتراجع، ومن ثم الوصول اليوم لحافة الانقسام والفوضى، ليس خبرة تركية فحتى أستاذ أردوغان ومن وصف بأنه أعند الإسلاميين وهو نجم الدين أربكان تعامل مع التحديات والأزمات بمرونة وواقعية، أما تلك الشطحات المثالية والقفزات الجنونية فتحيلنا تلقائيًا لحضور جماعة الإخوان فى المشهد. بصمة أدبيات ومناهج وممارسات جماعة الإخوان واضحة على تحولات أردوغان والحالة التركية برمتها؛ فقد انتقلت الحالة الإسلامية التركية من النورسية التنويرية إلى القطبية التكفيرية، ومن نهج كولن المعرفى التربوى التعايشى إلى نهج وجدى غنيم الاستعلائى الأحادى الطائفي، ومن ثقافة التعايش الحضارى إلى ثقافة الغزو والفتوحات. مشروع أردوغان الجديد يتضمن نزعة بناوية ترمى لتحقيق الهدف الأممى منذ أنشأ البنا الجماعة كرد فعل على انهيار السلطنة العثمانية، ثم قسم الاتصال مع العالم الإسلامى ومن يومها يجرى استحضار شعاره عن مفهوم أستاذية العالم الذى يشير إلى هدف استعادة الخلافة كتعبير عن الرؤية العالمية فى فكر الإخوان، وهو يضفى القداسة على «الحكومة الإسلامية» كما فى رسالة بين الأمس واليوم، واضعًا إياها ضمن أركان الإسلام، وهو يتحدث بمثالية عن ضم الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب ايطاليا وجزائر بحر الروم بوصفها كانت مستعمرات إسلامية يجب عودتها إلى أحضان الإسلام، وهو لا يستبعد خيار اللجوء للقوة والعنف، إنما فقط يؤجله لوقته عندما لا يجدى غيره. إذا كان هذا صحيحًا فمن المؤكد أن أردوغان قد أدار ظهره لرسائل النور التى خطها بديع الزمان سعيد النورسى وخلاصتها سلمية حضارية تدعو للتمسك بالهوية الإسلامية دون التورط فى أقذار السياسة ومتاهات العنف- وعكف طوال السنوات الماضية على مذاكرة رسائل البنا ومنهج سيد قطب، وليس غريبًا أن يلتف الإخوان حوله ويدعمه القرضاوى شخصيًا بهذا الشكل السافر، متقمصًا دور «شيخ الإسلام» فى السلطنة العثمانية. القرضاوى الذى نصب أردوغان خليفة وسلطانًا جديدًا على المسلمين نستطيع أن نستخلص من مؤلفاته خلاصة تصوراته لنظام الحكم الذى أفتى لأجله بهدم النظم العربية ومؤسسات الدول وجيوشها، وهو لا يختلف كثيرًا عن الطليعة الحزبية العقائدية فى كل الأنظمة الشمولية. ثقافة شعاراتية لم تهضم الحداثة ولم تراع المتغيرات ولم يفلح فى بعثها من ميدان التحرير، تقذفنا فى متاهات القرون الوسطى اللاهوتية وفتاواها المرعبة، والآن يحاول مجددًا بتحميلها على قلنصوة سلطان عثمانى جديد يغزونا بها من اسطنبول بسيف الغازى الأناضولي. يفكر الإخوان دون شك فى إعادة بناء التنظيم من الخارج؛ فبعد عام 54م -كما يقول جيل كيبل انشغل عبد الفتاح إسماعيل والهضيبى وزينب الغزالى بهذه المهمة، وعقد أول اجتماع لخلاياه المبعثرة عام 1957م. وأعيد تشكيله عام 1959م، أما الآن فالوضع مختلف فالجماعة يُعاد تشكيلها من خارج البلاد من خلال دولة إقليمية محورية بايعت رئيسها «خليفة للمسلمين»! هذا بشأن الجماعة وأهدافها، فماذا عن تركيا ومستقبلها كدولة، وهل ذاكرت دروس تجربة الجماعة فى مصر؟ لا أقرأ الغيب لكن لا أشك فى أن غالبية الأتراك اليوم منهمكون فى مطالعة التجربة المصرية صفحة 30 يونيو. لمزيد من مقالات هشام النجار;