ترسيخ ثقافة الانتقام يجعل الوطن على شفا صراعات، وحروب أهلية، لا يحصد منها سوى الإنهاك والفشل، ولا يخرج في النهاية منها أي منتصر، في حين أن المصالحة الوطنية المبنية على تحقيق العدل، دون إضاعة للحقوق، هي الخيار الأصوب من جميع النواحي، إذ تحفظ الوحدة السياسية للأمة، وتعمق مفاهيم التعايش بين الأجيال المتلاحقة. والأمر هكذا، نحن في مصر بأمس الحاجة إلى أن نتغافر، وإلى أن نؤسس لخبرة العدل في إحقاق الحقوق، والقسط في مراعاة المشاعر، والعفو عما يمكن العفو عنه، مع نشر ثقافة التسامح، والرضاء، وإقامة الدولة المصرية الحديثة على أساس الاحتضان، والاحتواء، لا الإقصاء، والعزل. لقد مرت الأيام البغيضة من حكم نظام حسني مبارك البائد بخيرها وشرها، ويجب أن نسدل الستار سريعا على حُلوها ومُرها، وأن نطرد أشباحها المروعة عن مسرح خيالنا. موضوع الصلح مدلول الصلح في قوله تعالى: "والصلح خير"، عام، يشمل كلّ صلح بين متخاصمين، ولا جدال في خيريته المخبر عنها بالمصدر أو الصفة المشبّهة للتعبير عن منتهاها، فيكون المراد أنّ الصلح في حد ذاته خير. قال الكاساني (في بدائع الصنائع، ج6 ص40): "وصف الله تعالى جنس الصلح بالخيرية، ومعلوم أن الباطل لا يُوصف بالخيرية، فكل صلح مشروع بظاهر هذا النص إلا ما خُص بدليل". غاية الصلح: شُرع الصلح لغاية فضّ النزاع، وتحقيق الإصلاح، ومنع الفساد؛ "ولأنّ أحد المتنازعين على منكر، وإزالة المنكر واجبة إجماعا". (كما قال القرافي في الذخيرة، ج5 ص336). وهكذا كل صلح، فإنما المراد به الردّ إلى كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ". قال القرطبي (في تفسيره) :"فأصلحوا بينهما"، بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما.. "فإن بغت إحداهما على الأخرى"، أي تعدت، ولم تجب إلى حكم الله، وكتابه..فغاية الصلح إزالة المنكر، وفضّ النزاع بالرجوع إلى حكم الكتاب والسنة، وهذا هو الإصلاح، والعدل. أما إذا انحرف الصلح عن غايته الشرعية، فأصبح وسيلة لإحقاق الباطل، وإبطال الحقّ، فلا يتحقّق به حينئذ مقصود الشارع، ويُعتبر من الباطل الذي لا يجوز إنفاذه. مرجعية الصلح الصلح يكون لفضّ أي تنازع، ولا يكون ذلك إلا بالاحتكام إلى شرع الله. قال تعالى :"فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً". قال الطاهر بن عاشور (في التحرير والتنوير، ج5 ص99): "وضمير (تنازعتم) راجع للذين آمنوا فيشمل كل من يمكن بينهم التنازع، وهم من عدا الرسول، إذ لا ينازعه المؤمنون، فشمل تنازع العموم بعضهم مع بعض، وشمل تنازع ولاة الأمور بعضهم مع بعض، كتنازع الوزراء مع الأمير أو بعضهم مع بعض، وشمل تنازع الرعية مع ولاة أمورهم، وشمل تنازع العلماء بعضهم مع بعض في شؤون علم الدين. ولفظ (شيء) نكرة متوغلة في الإبهام فهو في حيّز الشرط يفيد العموم أي في كل شيء، فيصدق بالتنازع في الخصومة على الحقوق، ويصدق بالتنازع في اختلاف الآراء عند المشاورة، أو عند مباشرة عمل ما، كتنازع ولاة الأمور في إجراء أحوال الأمة". وقال الشوكاني (في فتح القدير، ج1 ص481): "والرد إلى الله: هو الرد إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول: هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته.. قوله "إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" فيه دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين، وأنه شأن من يؤمن بالله، واليوم الآخر". وقال ابن القيم (في إعلام الموقعين، ج1 ص152): "الحقوق نوعان: حق الله، وحق الآدمي، فحق الله لا مدخل للصلح فيه، كالحدود والزكوات والكفّارات ونحوها، وإنما الصلح بين العبد وبين ربه في إقامتها لا في إهمالها..أما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها". شروط الصلح روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما".(أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح). وبهذا أجمعت الأمة على جواز الصلح. وفي الوقت نفسه هو نصّ يفيد كون الصلح إذا أُبرم يتقيّد فيه بالحلال والحرام، إذ إنّ خيرية الصلح لا تكون ذريعة إلى المعصية فيحرّم الحلال، ويحلّ الحرام. قال ابن القيم (في إعلام الموقعين، ج1 ص153): "الصلح الذي يحل الحرام، ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال أو إحلال بضع حرام أو إرقاق حرّ أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل أو أكل ربا أو إسقاط واجب أو تعطيل حد أو ظلم ثالث وما أشبه ذلك فكل هذا صلح جائر مردود." قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا باَلُ رِجَالٍ يَشْتَرِطونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ. كُلّ شَرْط ليْسَ فِي كَتَابِ الله فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرطُ اللهِ أَوْثَقُ" (رواه ابن ماجه وأحمد عن عائشة). العفو العام عند يوسف جاهر الأنبياء والمرسلون بإعلان العفو العام في مجتمعاتهم، وتبنوا دعوات الصلح والمصالحة مع أقوامهم، برغم عنادهم، وإصرار أكثريتهم على الاستمرار على ما هم عليه من فساد وظلم وضلال. وتقدم قصة يوسف عليه السلام في العفو عن إخوته الذين طالما تآمروا عليه؛ قدوة حسنة في التغلب على الرغبة في الانتقام والتشفي والثأر الشخصي، والقطيعة مع آلام الماضي وأحزانه، إذ لما اعترفوا بتفضيل الله له، وأقروا بخطئهم في حقه، وقدموا له المعذرة، قال لهم يوسف :"لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” (يوسف: 92). "لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ": أي لا لوم، ولا تعنيف "عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ".. فيوسف يتنازل عن كل حق شخصي له، وحتى عن مجرد توجيه اللوم إلى الذين ألقوه في غيابت الجب، لأن الأولى في نظره بدء صفحة جديدة من الصفاء، والمودة، في حين أن مجرد توجيه اللوم إليهم، يمثل عودة إلى الماضي البغيض، وإحياء له، مما يتعارض مع الصفحة التي يريد أن يبدأ حياته الجديدة بها معهم "اليوم قبل الغد". لقد عفا عنهم عفواً تاماً من غير تعبير لهم عن ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة، وهذا نهاية الاحسان الذي لا يتأتى إلا من الخواص. وما أنسب ما وقع من يوسف بالمراتب الثلاث المذكورة في قوله تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”(آل عمران ، آية : 134). فيوسف -عليه السلام- كظم غيظه بقوله: "لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ"، ثم عفا عنهم بقوله: "يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ"..ثم أحسن إليهم بقوله مباشرة: "وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ" (يوسف: 93). عفو أبي بكر هذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كان ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لفقره، وقرابته منه، وكان ممن وقع في حديث الافك، ولم يتثبت، وخاض ضد السيدة عائشة-رضي الله عنها- فقال الصديق :"والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة ما قال". لكن الله تعالى أنزل براءة السيدة عائشة في سورة النور، وكان من الآيات قوله تعالى: "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". (النور : 22 23). وحينها قال أبو بكر: "بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي"، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال :"والله لا أنزعها أبداً". العفو العام في حروب الردة كان لأبي بكر بعد نظر وبصيرة نافذة في حروب الردة، لذلك كان يستخدم الحزم في محله والعفو عندما تقتضي إليه الحاجة، فكان من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد رجوعها إلى الحق؛ فألان لهم القول، ووظف نفوذهم بقبائلهم لصالح الإسلام والمسلمين. فعل ذلك مع قيس بن يغوث المرادي، وعمرو بن معد يكرب، والأشعث بن قيس الكندي، وكانوا من صناديد العرب، وأكثرهم شجاعة. وهذا من حسن فقه الصديق رضي اله تعالى عنه. عام الجماعة قاد الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- الصلح مع معاوية، وتنازل فيه الحسن عن حقه في حكم المسلمين، وسُمي العام الذي تم التوصل فيه إلى ذلك الاتفاق بعام الجماعة. وقامت هذه المصالحة على تقديم وحدة الأمة على المصلحة الذاتية والفئوية، فترتب عليها توفير الأمن للناس، وتحقيق الرفاه الاجتماعي، وتوسع رقعة الدولة، وزيادة مواردها، وهو أمر يحتم علينا اليوم السعي للوصول إلى صيغ المصالحة بين فئات المجتمع. فمجتمعنا يمتلك استناداً لهذه الخبرة التاريخية أن يفتح باباً واسعاً للحوار، والمصالحة، بما يجعله يصبح بعد ذلك نموذجاً يحتذى. حاجتنا إلى ثقافة العفو الشريعة الإسلامية هي القاعدة الأساسية لأي مصالحة وطنية، وهذه المصالحة تقتضي وضع ميثاق شرف لوسائل الإعلام بحيث تلتزم بتعزيز الوحدة الوطنية، والابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة النعرات العنصرية والعرقية والمذهبية، مع نبذ العنف، وتأكيد ثقافة الحوار بين الأفراد والجماعات، ودعوة الوعاظ وأئمة المساجد إلى أن يضمنوا خطبهم ومواعظهم الدعوة للتصالح والمصالحة، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وتطهيرها من أتباع النظام البائد، ورد الحقوق المغصوبة لأصحابها. مانديلا.. والترابي نُسب إلى الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا قوله: "إن النظر إلى المستقبل، والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.. أذكر أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك، وبرهنت الأيام على أن هذا هو الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب إفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد". أخيرا: قال المفكر السوداني حسن الترابي :"إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي، والبناء فعل إيجابي، وإحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل". [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد