حاجتنا إلى المصالحة الوطنية في مصر، بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية، لا تقل في أهميتها عن حاجتنا إلى الماء والهواء، فتلك المصالحة ضرورة وجودية وحياتية، وبلادنا لن تستطيع أن تتقدم إلى الإمام إلا في ظلها. إن المصالحة الوطنية فريضة الوقت على قوى المجتمع المصري كافة، في ظل اتجاهنا إلى دولة المؤسسات، وتغليب معايير الكفاءة والأمانة، في كل مجال، وتطلعاتنا إلى "مصر للمصريين جميعا"، دون تحيز ، ولا تمييز، ولا إقصاء لأحد، بسبب رأي ، أو فكر، أو معتقد، بل مساواة أمام القانون، وعدالة في التوزيع، وإنصاف في المعاملة، وواجبات وحقوق متكافئة. إنه التحدي الأكبر الذي يواجه الرئيس الجديد، وقوى الثورة، والجماعة الوطنية، فالجميع بحاجة إلى إحداث أكبر حالة من التوافق المجتمعي، والاصطفاف الوطني، وتوحيد الكلمة، ولم الشمل، بين جميع أطياف الجماة الوطنية، سواء من صوت لمرسي، أو صوت لشفيق، ومن كان من دعاة الليبرالية، أو دعاة المرجعية الإسلامية.. إلخ. وكي "نكون أو لا نكون"، لابد من إحداث هذه الحالة؛ من التوافق المجتمعي، والتوحد الوطني، بهدف إنجاح حلم كل مصري، في العيش بكنف دولة قانونية عصرية متسامحة، ومتجانسة، ومتحابة، مما يقتضي أن نمضي قدما، "يدا واحدة"، بروح جماعية غلابة، نلتقي عند القواسم المشتركة، ونود العمل في الأمور المتفق عليها، وننبذ الجدل العقيم، ونؤجل خلافاتنا الثانوية. وتقتضي المصالحة الوطنية المطلوبة؛ انخراط قوى الشعب جميعا فيها، وأن يكون هناك برنامج تصالحي، يقف على قاعدة السلام الداخلي، والمعارضة الإيجابية المتزنة، ووجود خطة ذكية لإعادة الثقة بين المصريين، للوقوف صفا واحدا في مواجهة التحديات الماثلة، والأخطار المحدقة، ببناء فقه التصالح، وبث روح التراحم، وثقافة الاستيعاب، واحتضان المخطئين. وتنبثق المصالحة الوطنية التي أدعو إليها من كتاب الله، وسنة رسوله، والخبرة الإسلامية، والتجربة الإنسانية، وهي مسؤولية أبناء الشعب كافة، وأساسها العدل، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، ورد المظالم، وجبر الضرر، ورد الاعتبار للمتضررين، وتعويض الضحايا وأسرهم، واستسماحهم، وتأليف قلوبهم، والاعتذار إليهم، وتكريس الإحساس الشامل بالمواطنة الحقة. "فقه المصالحة" من المصطلحات القديمة في مبناها، الجديدة في معناها. فلفظ الفقه يفيد العلم بأحكام شرعية عملية مكتسبة من أدلة تفصيلية. ولفظ المصالحة يفيد عند الفقهاء ما يرادف المعاهدة والمسالمة والمهادنة. كما يفيد لفظ المصالحة معنى الصلح المستمدّ من قوله تعالى: "والصلح خير". وأمّا الجدّة في استعمال المصطلح فتكمن في اقتباسه لمعالجة مشكلة حديثة، كرفع نزاع سياسي بين حركة (أو جهة معارضة) وسلطة قائمة. والصلح "عقد يرفع النزاع بالتراضي، وينعقد بالإيجاب والقبول"، أو هو "عقد يتوصل به إلى التوفيق بين متنازعين في حق"، أو هو (كما في المغني لابن قدامة، ج1 ص1022) "معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين". الصلح مبدأ قرآني قال الله تعالى في محكم كتابه :"وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". (الحجرات ، آية : 9 10). وقال تعالى :"والصلح خير"، (النساء : 128)، فهو مبدأ عام يشمل كلّ صلح بين متخاصمين، وخيريته المخبر عنها تعني أنّ الصلح في ذاته خير، ومن هنا جاء "وصف الله تعالى جنس الصلح بالخيرية"، حسبما قال الكاساني في "بدائع الصنائع". والصلح أنواع؛ بين المسلمين وأهل الحرب، وبين أهل العدل وأهل البغي.. قال تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما". وهناك الصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما، قال تعالى: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير". صلح الحديبية: يُعد صلح الحديبية الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم (سنة 6ه) مع قريش دليلا عمليا على فقه المصالحة، إذ أقر مبدأ التنازل، من كلا الطرفين، لمعالجة خلاف قائم، والوصول إلى اتفاق مشترك. خبرة فتح مكة: نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم، ودعوته، وبرغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم. وقد جاء إعلان العفو عنهم، وهم مجتمعون قرب الكعبة، ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، فقال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: "لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ". وفي رواية: "فاذهبوا فأنتم الطلقاء". كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان بن حرب زعيم قريش الذي قاد الجيوش ضده في أحد، والخندق، بل جعل له نصيباً من الفخر، إذ قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن". وكان لتلك الطريقة النبوية أثرها في أبي سفيان بحيث تغير إلى الولاء الكامل للدعوة الجديدة، وكانت له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول الله، كما في معركة حُنين. بل كان هذا الأسلوب عاملاً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان، وأكد له أن المكانة التي كانت له عند قومه، لن تُنتقص في العهد الجديد، إن هو أخلص للإسلام، وبذل جهده في إعلاء كلمته. هذه المنهجية النبوية في التعامل مع الخصوم بعد هزيمتهم.. بالحرص على كسبهم والاستفادة من خبرتهم، وفتح أبواب الأمل، وبناء مستقبلهم نراها في تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع شاعر قريش عبد الله الزبعري الذي كان من أشد الناس عداوة للإسلام، وأكثرهم هجاءً لرسول الله، لكن الرسول الكريم قبل دخوله في الإسلام، وخلع عليه حلة، فقال بعد ذلك شعراً كثيراً يعتذر فيه إلى الرسول، كأن الشعراء في ذلك الوقت مثل الفضائيات في التأثير الإعلامي. ضرورة العفو العام إلى جانب هذا الصفح الجميل كان هناك الحزم الأصيل الذي لابد أن تتصف به القيادة الرشيدة، لذلك استثنى قرار العفو الشامل في مكة بضعة عشر رجلاً أمر الرسول بقتلهم وإن وجدوا معقلين بأستار الكعبة لأن جرائمهم عظمت في حق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح، ومن هؤلاء من قُتل، أو جاء تائباً فعفا عنه الرسول، وحسن إسلامه. يقول المفكر الليبي الدكتور علي الصلابي: "إن الخبرة التاريخية من فتح مكة تؤكد الفرق الواضح بين العفو والمصالحة من جهة، ومن جهة أخرى العدالة الحاسمة التي تقتضي فتح الملفات السابقة، وملاحقة كل الجزيئات مما يشغل الوطن بأسره لسنوات أو عقود لا أحد يقدر نهايتها، ثم إلى متى سنواصل تطبيق تلك العدالة بدون أي تحول دون التوسع في الانتقام والقصاص، مما يعود بنا من جديد لنقطة البداية، فيصبح الظالم مظلوماً يطالب هو بتطبيق العدالة الحاكمة على من كان مظلوماً وضحية بالأمس القريب. ويتساءل: ماذا لو استسلم المسلمون لمشاعرهم الراغبة بتطبيق العدل الحاسم الذي تُفصل فيه التهم، وتُجمع فيه الأدلة، ويصبح للقضاء فيه كلمته الأخيرة، بينما يضيق مجال الصفح، بعد أن تُنكأ الجراحات؟ ويجيب: "إن تطبيق هذا العدل الحاسم كان سيقضي لا محالة على شخصيات مهمة شاركت في رسم تاريخ البشرية عبر حركة الفتوحات الإسلامية، وتقوية الدولة، وإدارة الحضارة الناهضة". والواقع أن العفو العام يزيد أيضا من تآلف مكونات المجتمع المتنوعة ثقافياً ولغوياً وعرقياً ودينياً، وهذا مقصد بعيد المدى يجب التفكير فيه بدلاً من الإصرار على طريقة تنتهي إلى التنافر، وتمزيق مكونات المجتمع، وإعادة تخندقها ضد النظام الجديد، خوفاً من الانتقام باسم العدالة الوليدة. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد