تعددت الجرائم والفاعل واحد فى مأساة دموية يحيطها الشر والعبث. فمن بطرسبورج إلى ستكهولم لباريس وبرلين بل وطنطا بدا أن الفاعل واحد: فهم (الغاضبون من عدم النصر فى الشام)، كما كان هناك من قبلهم (العائدون من أفغانستان). جَهِلَ العديد من هؤلاء أو تجاهلوا الترتيبات الدوليه الكبيرة والمعقدة بالضرورة لانتقالهم إلى مواقع القتال والقتل أى إلى مسرح الجريمة، سواء كانت فى ليبيا، أو العريش أو الإسكندرية وطنطا. ولكن هذا لا يفسر ظاهرة الانتحاريين؛ فهؤلاء ذوو عقيدة متكاملة تتجاوز الارتزاق إلى اليأس من الحياة ذاتها، ربما أو الإيمان بنبل ما يفعلونه. فكيف وصل أولئك الذين يفجرون أنفسهم إلى ما هم فيه، من عقيدة تدفعهم لتفجير أنفسهم شباباً فى عشرات من العُزَّل حولهم؟ فهل هو مجرد انحراف فى خطاب ديني؟ أم أن الأمر أوسع وأعمق كثيراً؟ فكيف وصلت الأمور مثلاً إلى انضمام الآلاف أو عشرات الآلاف إلى عقيدة الإسلام السياسى من الجيلين الثانى والثالث من أبناء المهاجرين المسلمين فى أوروبا؟ هذا السؤال يطرح نفسه على مواطنى أوروبا وشمال أمريكا كما يطرح نفسه على شعوب الشرق. فهل هؤلاء ظاهرة زمنية متفردة؟ أم أنها مرتبطة بالإسلام ذاته؟ هل لظهورهم علاقة بوسطية الإسلام الغائبة؟ أم أنه الأزهر تجاوزه الزمن وتم اختطافه؟ وهل العلاج حقاً هو تجديد الخطاب الديني؟ والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تتأتى من قطاع ليس بالبسيط فى مجتمعنا. قطاع يوجد به وفى وسطه أعداد كبيرة من المتعلمين وأشباه المثقفين، ينكرون دور المرتزقة المسلمين فيما يدور لمجرد أن اسمهم يقترن بالإسلام. وليس اقتران اسمهم بالإسلام افتراء وتشويهاً من جانب خصومهم، ولكنهم هم ذاتهم الذين يسمون أنفسهم بتلك الأسماء فهم الإخوان المسلمون أو الدولة الإسلامية فى العراق والشام. وينكر قطاع من الناس هذا الأمر لمجرد أن اسم الفاعل اقترن بالإسلام؛ فالإسلام لدى قطاع من الناس هو جزء من ضمير الأمة وتاريخها، وهو مكون من مكونات المقاومة ضد من يريدون قهرها واستعمارها، وهو بذاته جزء من ضمير الإنسان الفرد فى تعامله مع الحياة بقسوتها والكون بغموضه الأزلي. ولهذا فإن هؤلاء يطلقون على أى حوار حول هذا الأمر (نغمة الإخوان)، ويذهبون بعيداً للبحث عن أشباح وهمية معزولة عن الوقائع تقترف تلك الجرائم. فهم حالة نفسية متكاملة من تبرئة المجرم ولوم الضحية.. وهكذا نرى من حولنا من يلقون بالاتهامات على أشباح وهمية: فمن الدولة ذاتها، لرجال الرئيس السابق مبارك، للأزمة الاقتصادية العارمة التى تمر بها البلاد أو لقانون الطوارئ وغياب الديمقراطية. والحقيقة أن أهم جذور تلك الظاهرة موجودة فى العمل السياسى المصرى الحالى وفى روايات التاريخ العربي: فحتى أشد دعاة الصراع مع الإخوان يتقاعس أمام الرواية الحقيقية لصعود الإسلام السياسي، وفى تشريح مكوناته المصرية والعربية النفطية والعالمية الأمريكية فيستتر المفكرون ورجال السياسة بعبارات غامضة كتجديد الخطاب الديني، وكأنما الأمر هو أمر نبات أصابه عوج ما، أو شجرة انحرفت فروعها لمجرد سوء الرعاية. فالحقيقة إن عقيدة الإسلام المقاتل ليست جديدة وليست فريدة، بل وليست مرفوضة، بل هى مطلوبة ولها سوق مهم رفع من قيمتها وحولها إلى ضرورة. بل ولقد كان أحد رؤساء مصر وهو الرئيس السادات هو أهم من تفهم احتياج الغرب للإسلام السياسي، فعرض نفسه وعرض إمكانيات مصر البشرية بالكامل فى معسكر الإسلام السياسي. وكانت دروشة البلاد ضرورة لإنتاج النطفة الضرورية من الشباب الإسلامى المقاتل فما كان من الممكن الحصول على تلك النطفة إلا من قمة مرجل هرم دروشة المجتمع كله بشعارات إسلامية غامضة. وهكذا كانت الدولة المصرية حاضرة فى المعركة الأفغانية، فلقد ورّدَت مصر أكثر من ربع المقاتلين لأفغانستان وصارت المورِّد الأساسى للدعاة حول العالم. والإسلام ليس أول دين تخرج من بين جنباته عقائد قتالية تزدرى الآخر، وتحرض على قتله، فمن قبلها كانت المسيحية. وكانت الحملات الصليبية على الشرق نموذجا لكيف تحولت ديانة كاملة بكافة مؤسساتها الكنسية إلى آلة لتفريخ المقاتلين،. ينتقلون من بين أحراش أوروبا وأكواخها ومدنها المتناثرة البعيدة يلفها الضباب. كانت صكوك الغفران والتبريكات من القساوسة ضرورة لخلق مجتمع أو شجرة مسمومة تفرز ثماراً قاتلة تذهب للقتل. وهكذا كانت هناك ضروره لصناعه الدروشه بديلا عن الحداثه فتلك ضرورة لتفريخ المقاتلين والانتحاريين و هكذا ففى صفقة كبرى لغم الرئيس السادات الحياة السياسية المصرية وما يتبعها من تفريعات قانونية و ثقافية بالمادة الثانية من الدستور تنص على ان الاسلام هو المصدر الاساسى للتشريع. عندما يتحدث الأوروبيون عن تجارة العبيد، يحلو لهم تصوير الأمر كأنما الأمر هو مجرد تجارة شرقية دنيئة جشعة خلصت أوروبا البشرية منها، ويتجاهلون تماماً دورهم هم ذاتهم. فلقد كانت أمريكا هى السوق الأساسى لتجارة العبيد وكان هذا السوق هو من حول ظاهرة استعباد الأفراد لصناعة ضخمة تنقل عشرات الآلاف من العبيد عبر الأطلنطى بكفاءة تامة إلى حقول أمريكا الشمالية. وهكذا فإن الإسلام السياسى وعقيدته الجهادية، ودروشة الشعوب الشرقية هى أمور مطلوبة لذاتها؛ فما كان من الممكن أن تنتج شجرة الإسلام السياسى المسلحين الانتحاريين دون أن يكون لهم سوق دولى يمتد من افغانستان لسوريه لآسيا الوسطي. تدروشت مجتمعات بأكملها وبارك الغرب دروشتها بازدراء وتحفظ متعال حتى تفرز تلك الخلاصة فى قمة هرمها. الخلاصة هم المرتزقة المسلمون ونطفتهم الدموية من الشباب الانتحارى الذى تم تضليله تماماً، فذهب لساحات الموت قاتلاً ومقتولاً مضللا وعميلا دون وعى أو إدراك. ترى هل لإسرائيل ضلع فى الأمر؟ الإجابة: بالتأكيد، فإذا عدنا إلى التجربة الأفغانية لعرفنا أن لإسرائيل يداً؛ فلقد أصرت على متابعة فيالق الشباب المسلم الذين تم توريدهم لأفغانستان فى حرب وهمية وكانت المتابعة تفصيلية. فكانت إسرائيل وأجهزتها حاضرة تتتبع من هم هؤلاء الشباب بأسمائهم وعناوينهم وأسماء مدنهم وقراهم وشبكات علاقتهم. كانت معركة أفغانستان فى صالح إسرائيل، فلم تعد المسألة هى تحرير فلسطين، بل تحرير أفغانستان. وهكذا فقد كان من بين الذاهبين لأفغانستان عشرات فلسطينيون ولم يشاركوا زملاءهم الطريق الفلسطينى المعتاد فى لبنان وغيرها؛ فكانت حماس وكان الانقسام التاريخى فى فلسطين. فغزة التى تفتح اليوم بوابات التسلل ضد مصر فى سيناء تحت حكم حماس تقف بعيدا عن الجسد الفلسطينى ذاته لتعطى اسرائيل فرصة التخلص من عبئها. ولذلك فإن متابعة اسرائيل للمرتزقة المسلمين فى سوريا وليبيا والعراق ليست افتراضا إذا تنبهنا الى تنبه اسرائيل للامر فى افغانستان. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;