في أثناء زيارتنا لمدن شلاتين وأبورماد وحلايب ومن خلال تعايش «الأهرام» مع الحياة اليومية للسكان وجدنا أن المهن المنتشرة بينهم ارتبطت بطبيعة المكان ، ومعظمها لرعي الأغنام ، أو تجارة ورعي الجمال ، وتجارة التوابل التي تأتي من السودان، وصناعة المشغولات اليدوية من قبل المرأة «الجنوبية»، وصيد الأسماك من البحر الأحمر، ومن واقع معيشة غالبية الأهالي فهذه المهن لا تدعمهم بالقدر الكافي لتلبية احتياجاتهم وتطوير بيئتهم، ولعل هذا ما دفع بعضهم طلبا في زيادة الرزق بالبحث عن مجال عمل آخر، واستغلال تلك البيئة التي ترعرع فيها، ولكن بأسلوب مختلف عن الآخرين ، واستعادت ذاكرتهم روايات أجدادهم عن الطبيعة «الفريدة» بما تحويه من ثروات نفيسة في بطون جبالها وسهول وديانها ، نهلوا من خيرها هم وغيرهم عبر عصور متلاحقة وصولا للفراعنة، بينما هم يمرون ليل نهار يرعون الأغنام علي مناجم الذهب القديمة دون رقيب أو حسيب مفتوحة علي مصاريعها في الفضاء الشاسع تحتضنها الجبال الشاهقة والصحراء الجرداء تناديهم «هلمٌ» فلبوا نداءها، بحثا عن الذهب بالتنقيب العشوائي الذي بات مهنتهم الرئيسية ، بغض النظر عن مشروعية ذلك ومدي اتفاقه مع القانون أو تأثيرها السلبي علي تلك الثروات والتي تحتاج لأسلوب علمي منظم سواء في البحث عنها أو استخلاصها، ولاسيما أنهم يعملون وفق الموروث القديم من الفراعنة باستخراج الذهب من عرق الكوارتز فقط ، مما يترتب عليه إهدار هذه الثروة الثمينة دون عائد مجد لهم أو للدولة، والتي حاولت من جانبها تقنين أوضاعهم والسماح لهم بالعمل وفق تصاريح ومن خلال شركة «شلاتين» واستجاب بعضهم ويعملون في حرية تامة في استخلاص الذهب من الجبال بناء علي الاتفاق المبرم مع الشركة . ومع ذلك مازال كثيرون يعملون خارج المنظومة ، وهذا أمر غير خفي ويقف علي تفاصيلها أهل المنطقة ، ولم يكن لديهم ادني مشكلة أو تحفظ من سرد مراحل التنقيب العشوائي. بداية من الخروج للجبل والتركيز علي المناطق الأكثر تركيزا لخام الذهب ووصولا لاستخلاصه من الزئبق بالحرق ، ولكن الصعوبة بل يتعداها للمستحيل مساعدتنا في رصد هذه المراحل واقعا ، وتحذيرنا بشدة من محاولة الاقتراب من هذه المواقع ، لدرجة أن أحدهم قال لنا «لو أن هذا المطلب من والد أحدهم لن يقبلوه» . «البحث عن دليل» غير أن هذه التحذيرات لم تثنينا عن محاولة البحث عن دليل يرشدنا لهذه المواقع ويسهل لنا المهمة ، وبإصرارنا ومثابرتنا علي مدى يومين بالبحث والتقصي ، توصلنا لدليل علي اطلاع كبير بمناطق وجود الذهب والمناجم القديمة ومواقع التنقيب العشوائي ومراحل استخلاص الذهب بها ، والذي أوضح قائلا ان العاملين بالتنقيب العشوائي هم من أبناء القبائل الموجودة بالمنطقة والذين يعملون في المناجم القديمة التي سبق أن استخرج منها الفراعنة الذهب، وتركوا بردية تضم خريطة بهذه المواقع والتي تتعدي ال 120 منجما بمنطقة الشرقيةبالبحر الأحمر، ويطلق عليها «خريطة الفواخير» والموجودة بمتحف بمدينة تورين بايطاليا، وتبعهم في العمل بهذه المناجم الرومان ثم الانجليز، ثم أهملت بعد ذلك لعدم جدواها اقتصاديا .حيث يركزون علي أماكن تواجد عروق الكوارتز الغنية بخام الذهب والتي قد يصل نسبة الذهب في الطن بها الي30 جراما، ومعظمها يوجد في شمال شلاتين بمرسي علم والبرامية وأسوان، وفي فترة التسعينات الخامات كانت تستخرج بالتفجير في الجبال ثم يتم التعامل يدويا معها. وهناك نوع آخر من التنقيب في سهول الوديان وترسب الذهب بها بعد هبوط السيول أو المطر أو هبوب الرياح من قمة الجبل ويستعينون للكشف عنها بأجهزة حديثة دخلت البلاد عقب ثورة 25 يناير. «طواحين الذهب» واستطرد قائلا : سنتوجه لمواقع طواحين الذهب والتي يطلق عليها «الدهابة « بشلاتين وهناك يمكننا الاطلاع علي مراحل استخلاص الذهب للتنقيب العشوائي ، والتي يسبقها العمل في الجبل بالاستعانة بالحفارات حيث يتم تكسير الصخور بالمواقع التي يثقون من وجود الذهب فيها ثم ينقلونها إلي الطواحين التي نتجه إليها ،وأردف قائلا : إذا رغبتم في سؤال العاملين بهذه المواقع فلكم ذلك، علي ألا تتضمن هذه الاسئلة حصولهم علي تصاريح للعمل أو إقامة أو كارنيهات لكي لا يرتابوا منا حتى يقبلوا التعاون معنا. وتوجهنا في السيارة خلف الدليل ، ولم نستغرق 10 دقائق للوصول للمنطقة والتي تقترب كثيرا من سوق شلاتين ،في منطقة عبارة عن مجموعة من الأسوار متوسطة الارتفاع من الطوب الأسمنتي تم بناؤها بطريقة بدائية ،وهنا طلب منا الدليل النزول من السيارات قائلا : هنا موقع الدهابات ولنا حرية الدخول لأي منها مع الحذر من الغوص في مخلفات طحن الصخور وغسلها بالماء «طين رملي» الملقي في مدخل أي منها ، وما أن دخلنا إلي موقع الدهابة حتي، استمروا في عملهم في صمت عن الكلمات واستبدلوها بلغة النظرات ، ولم يعننا التركيز في نواياهم ، بقدر شغفنا بطبيعة هذا العمل ورصدها بالكامل حتي نري الذهب بأعيننا ، وقد أصابنا الذهول مما رأيناه بطريقة استخلاص الذهب البدائية ، والتي كان يستخدمها أجدادنا الفراعنة ، والاختلاف فقط في شكل الطواحين ومادة صنعها ، فالدهابة بها اثنتان من الطواحين ذات الرحايا الرأسية الحديدية وتعمل بمولد كهربائي كبير، ويقوم بتشغيلها ومتابعة عملية الطحن مجموعة من الأفراد من الواضح أنهم سودانين، وبجوارهم كثير من الأجولة الممتلئة بكسر الصخور القادمة من الجبل، والتي يتولي مهمة تكسيرها لأحجام صغيرة عاملان يجلسان أسفل المنطقة التي وضعت عليها الطواحين ، ليتم إلقاؤها بداخل الطواحين المليئة بالماء لطحنها وعندما تصل لحجم حبات الرمل ، يتم نقلها كخليط مع الماء عبر إحدي المواسير ذات قطر كبير ، وصبه في حوض كبير ، وفي هذه المرحلة تتولي مجموعة آخري ومعظمهم من المصريين من أهل المنطقة مهمة رفع ناتج ترسيب الطحن بالماء حيث يترسب الذهب نظرا لكثافته المرتفعة ورفعة بجوار حوض صغير اخر ملئ بالماء، ليتولي شخص آخر عملية استخراج الذهب باستخدام مادة الزئبق ، والتي»نصحنا الدليل» بضرورة الابتعاد عنها قدر الإمكان لضررها البالغ والواجب علي من يتعامل معها أن يرتدي قفازات وكمامة معينة، ولكنهم هنا لا يراعون ذلك لجهلهم بهذه الحقائق وعملهم بأسلوب بدائي، وابتعدنا قليلا حيث قام بوضع بعض من رواسب طحن الصخور في قصعة من حديد ويوضع عليها بعض من الماء وقطرات من الزئبق ثم يقوم بعملية هز وتدوير للخليط وسكبه في قصعة أخري للفرز وتكرار ذلك عدة مرات، بهدف تجميع مادة الزئبق مع الذهب، وهنا لم نجد بدا غير الحديث مع القائم علي عملية تصفية الذهب مع الزئبق، وهو رجل يبدو «سبعيني» العمر ونحيف الجسم ، وبصعوبة اطلعنا علي لقبه أبو احمد «وليس اسمه» و كان مضطرا للاستمرار في مهمته، وهو يكمل عملية الفرز بالقصعة علي مضض، وأردف قائلا: إنه لم يعمل في هذا الطواحين إلا من قريب جدا، ومهمته عملية تتمثل في المرحلة قبل الأخيرة حيث يقوم بعملية فرز وتجميع الذهب مع الزئبق وتخليصها من الرديم . «إجراءات وقائية» وهنا تداخل الدليل قائلا هذا الرديم يكون حاويا للذهب بنسبة كبيرة نظرا لاستخدامهم الزئبق في استخلاص الذهب والذي لا يمكنه سوي استخلاص نسب قليلة من الذهب بالخام، أسوة بمادة السيانيد والتي في إمكانها استخلاص الذهب من الخام بمعدل يصل لثلث جرام في الطن «رغم إنها مادة شديدة الخطورة واستخدامها يلزمه إجراءات وقائية شديدة الحذر» ولهذا يقومون بتجميع الرديم وبيعه من جديد . «الحرق بالزئبق» وفي تلك الأثناء حاولت الاستفسار من الدليل لما له من خبرة قوية في مجال التعدين عن أهم مخاطر الحرق بالزئبق والذي أوضح أن حرق الزئبق لاستخلاص الذهب منه دون استخدام عوامل أمان بمواصفات معينة تضمن عدم نفاذ الغاز للإنسان ، أمر خطير يصل للوفاة الفجائية ، وهناك كثير من الحالات التي حدث لها ذلك من العاملين بهذه المهنة وبهذا الأسلوب البدائي، بحيث ينام العامل منه وعند محاولة إيقاظه يجدونه متوفي . ودخلنا لموقع جديد ووجدناه كالسابق تماما غير أنهم اقتصروا في حضورنا علي تكسير الخام وإلقائه في الطواحين ، بينما توقفت باقي المراحل وجلس العاملون عليها بجوار حجرة صغيرة، وهنا لمحنا عدة الحرق المكونة من أنبوبة بوتاجاز وخرطوم متصل به بوق يخرج منه اللهب وطبق صغير، وهنا اقتربنا منهم وحاولنا الحديث معهم ليطمئنوا لنا، وبدت علي كبيرهم «عبد الرحيم كرار» من أهالي شلاتين علامات الاطمئنان، وأشار إلي الآخرين بالعودة للعمل، وتابعنا لحظة حرق وتبخر الزئبق بعيدا عن الذهب والتى وقفنا لرصدها من مسافة ملائمة، وبدأ عبد الرحيم في عملية الحرق والتي لم تستغرق دقائق حتي ظهرت قطعة الذهب أمام عيوننا، وسألناه عن هوية من يشتري الذهب قال نبيعه: «للصايغ» خاما والذي يقوم بمهمة تفريزه بمستوياته المختلفة . «نصف طن» وعن كم إنتاجه من الذهب أكد عبد الرحيم أن ال 10 أجولة «نصف طن» تنتج من 7 إلي 15 جراما، وهنا سألناه من أي المواقع تحديدا تأخذون خام الذهب؟ أجاب قائلا : نحن نعمل في ذات المواقع التي عمل فيها الفراعنة قديما ونسير خلف خطاهم سواء من شلاتين أو العلاقي أو القصير ومناطق أخري كثيرة مما نتناقلها نحن الأبناء عن الأجداد . وعن حجم المياه التي يستخدمونها قال : نستخدم 200 طن مياه لطحن 1700 جوال خام كل 15 يوما، والتي تمتزج مع الرديم ويقبل علي شرائه السودانيون ولديهم استعداد للعمل لدينا بالمجان في «الشوالة» أي استخلاص الذهب بالزئبق ، من أجل الحصول علي الرديم ، لأن الزئبق يتجمع علي 25% من الذهب ، بينما السيانيد بتجمع ال75% الأخري وهذه الطريقة ينتج عنها تحقيق أعلي إنتاج من الذهب ، بينما طريقتنا بالطواحين تهدر الكثير منه، وذلك لافتقارنا للإمكانات العالية التي يتطلبها العمل بالسيانيد . «نموذج ناجح» وفى أثناء خروجنا من موقع الطواحين استوقفنا حجم كمية الرديم الناتج من عملية طحن الخام والمهدرة لثرائها بالذهب، وذلك أثار في داخلنا تساؤلات كثيرة تدور حول كيفية الاستفادة من ثرواتنا علي الوجه الأكمل، وكان من المهم الاطلاع علي رؤية واضحة المعالم للأسلوب الأمثل مع تلك الثروات من المهندس يوسف الراجحي رئيس مجلس إدارة شركة منجم السكري كنموذج ناجح بالمجال والذي أوضح قائلا : مصر ثرية بالثروات المعدنية التي تملأ صحارينا الشرقية والغربية وسيناء ،ولا تقتصر علي الذهب الموجود بكثرة في منطقة البحر الأحمر،فشركتنا وبعد أعمال البحث قدمنا للدولة دراسات وافية تضم عشرة مشروعات لمواقع غنية بالذهب ،واختيار بداية العمل في منجم السكري لم تكن لثرائه عن الآخري بل لأنه الموقع الأقرب من مدينة مرسي علم ،بينما المواقع الأخري أكثر ثراء بالمعدن وفق ما أكدته الأبحاث التي أجريناها ، ولو أن العمل الذي اتخذ مع السكري تم تطبيقه حيال مواقع أخري لكان لدي مصر أكثر من 4 مناجم أخري تنتج الذهب الآن. وأردف قائلا : التنقيب العشوائي يمثل إهدارا كبيرا للثروة المعدنية في البلد، رغم إنها باتت مصدر رزق و»أكل عيش» للقائمين عليها، وقبل اتخاذ أي إجراء لمنعهم من التنقيب، فمن الضروري توفير حياة كريمة لهم، ولاسيما مع انتشار البطالة في الجنوب ، والحلول الأمنية غير مجدية ، ولكن علي الدولة استقطاب كيانات كبيرة بمجال التعدين وبعملها في المنطقة تستوعبهم كعمالة بها، ولاسيما أن مجال التعدين ذو عمالة كثيفة ، والصحراء الشرقية من الممكن أن تعمل فيها أكثر من 120 من كبريات الشركات العالمية في التعدين من غد في حال تعديل قانون التعدين، وهو الأمر الذي سيوفر آلافا من فرص العمل تستوعب أبناء المنطقة ، ويحصون علي أجور ثابتة وتأمين صحي وحياة كريمة، ما من شأنه أن يغنيهم عن التعرض للمخاطر التي يواجهونها في التنقيب العشوائي. «تقنين الأوضاع» أما عن تقنين أوضاع القائمين علي عملية التنقيب العشوائي فقال إن التقنين أمر من شأنه تدمير الثروة المعدنية في مصر ، ولاسيما أنها تعتمد علي العمل السطحي ، وتفتقر إمكانياتها للمقدرة الفنية والمالية التي لديها القدرة علي استخراج المعدن بكفاءة ، كالشركات الكبري المختصة في هذا المجال.