يُعني «عبد الحميد حواس» الباحث فى الثقافة الشعبيَّة فى جهوده النظريَّة والميدانيَّة بالإبانة عن دور الثقافة الشعبيَّة فى تأسيس النهضة الحديثة، وفى توطين النوع الروائى والسينمائى فى مصر ومناقشة عمليَّات الإفادة من الموسيقى الفولكلورية فى علاقتها بالتغيُّرات الاجتماعيَّة وتجادُلِها معها،وهو ما عَمَدَ إلى دراسته فى رواية «حُسن العواقب» للرائدة «زينب فواز» ......................................................... سبقت روايه حسن العواقب زمنيا رواية «زينب» للدكتور «محمد حسين هيكل» فى تأسيس أول رواية عربيَّة حديثة،وكشف حواس فى دراسة عن جماليَّات السيرة الشعبيَّة التى تحتويها وطرائقها البلاغيَّة،وبنيتها الهيكليَّة، وكذلك أهمها فى السينما بما تنطوى عليه من قيم اجتماعيَّة وجماليَّة تربطها بواقعها وانشغالات راهنه فى عصوها. لهذا ينطلق «عبد الحميد حواس» فى درسه البحثى من إيمانه العميق بحيوية الدور الذى ينهض به «العمل الثقافي» في «تحرير التركيبة الثقافية القائمة،وتجديد معالمها،وفتح آفاقها على غدٍ أكثر رشدًا وجمالًا»وفق تعبيره. الأمر الذى يقتضى تفكيك تراتبية قيم المجتمع،ودراسة بُناه المختلفة،وتطبيق منهجية النقد التاريخى على تراث الماضي؛بما يٌتيح لنا إعادة طرح الأسئلة القديمة فى ضوء جديد، يعى طبيعة مأزِق تطورنا الاجتماعى والاقتصادى والسياسي، وعلى نحوٍ يُفضى إلى تحوُّلٍ فى الذاكرة الجماعية،وإلى ترسيم حياتنا ضمن صيرورةٍ وتصوُّراتٍ أخري. لهذا توقَّفَ طويلًا عند فكر النهضة ومشروعها التحديثى فى سعيهما إلى تحرير البلاد من التبعية الخارجية،وتوسيع هامش الحرية المحدود،وإشاعة القيم الليبرالية والديمقراطية وتشكيل رأى عامٍّ مستنير،ونشوء الدولة المفتوحة على المجتمع والمتكاملة معه.وهنا يلفت»عبد الحميد حواس نظرنا «فى كتابه»أوراق فى الثقافة الشعبية» بجزأيْه، إلى أنَّ سعى رجال النهضة إلى بناء «ثقافة وطنية» (يتطلَّبَ منهم العمل على محوريْن: إزالة الهيمنة التى تفرضها الثقافات الأجنبية سواء العثمانية أو الأوربية، وحل الازدواجية الثقافية المحلية بين «ثقافة عالِمة» تُمارسها النخبة المُتعلِّمة وتُكسبها الدوائر المتنفِّذة سلطة الثقافة الرسمية، و«ثقافة شعبية»تتصل بعموم الناس فى الريف والبادية والحضر) لهذا أدرك أهمية التراث الشعبى فى إطار تاريخية حركة المجتمع، وتغيُّر أنساق العلاقات فيه؛ بما يترك أثره على وعى الفنان الشعبي، وعلى رؤيته للعالم من حوله. وهو ما رصده «عبد الحميد حواس» فى غير موضعٍ ومكان من كتابى «الطهطاوي» «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» وفى «قلائد المفاخر فى غريب عادات الأوائل والأواخر»،وفى نُبذتيْه عن»الإسكندر الأكبر،وعن الميثولوجيا، مُعيدًا التأكيد عليه»فى مقدمة»بداية القدماء وهداية الحكماء»،فضلًا عن تشديده علي»أهمية السياق الاجتماعى للظواهر،وفهم وظيفتها بالنسبة إليه،على نحو ما بدا فى معالجته رسالة «البدع المتقرِّرة فى الشيع المتبربرة».غير أن «عبد الحميد حواس» يُبادر فيقول: ومهما يكنْ من أمر هذه المبادئ والتوجهات فى النظر إلى مكونات الثقافة الشعبية،فإن موقف الطهطاوى منها لم يكن موقفًا خاصًّا بالرائد الأكبر للنهضة الحديثة، وإنما كان بلورة وإبرازًا لمنجزاتٍ اكتسبتها حركة النهضة الحديثة فى مسعاها لتأسيس ثقافة وطنيَّة ناهضة»،أى أن النهضة لم تبدأ مع الطهطاوي،بل كانت لها إرهاصاتها السابقة عليه، ودينامياتها الداخلية الفاعلة والمتنامية داخل جسد الحركة الوطنيَّة المصريَّة، والتى برز منها شعار «مصر للمصريين» الذى رفعه الشيخ «أحمد الدردير» فى هبَّة يناير 1786فى الردِّ على مظالم المماليك والعثمانيين، وأرَّخ لها «عبد الرحمن الجبرتي»الذى حَرَصَ على تأكيد هُويتها المصريَّة وتوجهها الوطني،ثم جاء الطهطاوى ليبلورها ويُعمِّقَ محتواها الفكرى والثقافي. بَيْدَ أن «مسار النهضة الحديثة فى الشأن الثقافى لم يكن منتظم الخطى المتوالية التصاعد فى التقدُّم، بل اعترضته معوِّقات ومحبِطات،شأنه شأن المسارات الأخري:السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة،زدْ عليها تعقيدات التوجُّهات الفكريِّة المتباينة»كما يري «عبد الحميد حواس»؛ فى إشارةٍ إلى نظام التبعية الذى عاشت مصر فى كنفه إبَّان الاحتلال البريطاني، وأفضى إلى وقوع الشعب المصرى تحت وطأة القهر السياسى والقمع الثقافى والاستغلال الاقتصادي. لذلك أخذ مسار النهضة» شكل النبضات والوثبات لا الشكل الخطى المستمر» بتعبيره ،حاصرًا موجتها الثانية» عشية الثورة العُرابيَّة التى تمثَّل إنجازها الثقافى فى أعمال أبرز ممثليها عبد الله النديم»، وموجتها الثالثة فى ثورة 1919، وموجتها الرابعة في»جيل 1946العظيم من الوطنيين الديمقراطيين والثوريين الذى استمرَّت ثمار عمله، وعايشنا فاعليتها حتى ستينيات القرن العشرين». ومن ثَمَّ؛ فالتقدم ليس خطيًّا مستقيمًا مستمرًّا إلى مالانهاية،بل هو منكسر..منقطع.لا يعرف الاستمراريَّة، وإنما يحدث عن طريق القطيعة، أو الوثبة المباغتة،أو الطفرة النوعيَّة، وفق مصطلحات علماء البيولوجيا. وقد لعب «عبد الله النديم» دورًا محوريًّا فى النهضة على الصعيد الثقافي؛ فلم يكن مجرد زجالٍ وشاعرٍ وكاتبِ مسرحٍ ومحرِّضٍ سياسيٍّ وخطيبٍ للثورة العُرابيَّة ومؤسِّسٍ للجمعيَّات والصحف الوطنيَّة،بل كان بتعبير«عبد الحميد حواس»»وعيًا فى حالة صيرورةٍ متنامية،ينضج من خلال الممارسة وبواسطة الجدل بين الخبرات والمعارف التى يكتسبها وبين مجريات الواقع المعيش»،منتقلًا»من الحسّ المشترك العام إلى تحقيق فاعليَّة جمعيَّة تهدف إلى تحرير الفرد والعقل والوطن»؛ألم يكنْ ركنًا ركينًا فى جماعة ضمَّت:محمد عبيد وطلبة عصمت ويعقوب سامى ومحمود فهمى وعلى الروبي؛ممنْ نادوْا بتحرير الإرادة المصرية وبالاستقلال الوطنى وبالديمقراطيَّة وبالعدالة والتحديث؟ وقد اعترف «النديم» بالازدواج اللغوى القائم فى الواقع المعيش،» وإن كان قد اعتبر العاميَّة أداة لغويَّة مؤقتة فى سبيلها إلى الزوال مع انتشار التعليم وارتقائه والتشارك فى ثقافة وطنيَّة واحدة». ومع بزوغ ثورة 1919، تهيأ المناخ لخلق أدب وطنى محلى أشاعته «المدرسة الحديثة» التى رأت أنْ لا استقلالَ سياسيًّا دون استقلال فكرى يُؤكِّد خصوصيتها وقدرتها على التفاعل الحر الخلَّاق، وسكَّ أحد زعمائها «أحمد خيرى سعيد» مبدأ «فلتحيا الأصالة،فليحيا الإبداع،فليحيا التجديد والإصلاح»،وأسَّس مع رفيقه»محمود طاهر لاشين»مجلة «الفجر»عام 1925، حاملة شعار «صحيفة الهدم والبناء»،آخذة ب«النهج الواقعي». ويروي»حسين فوزي» كيف دفعت ثورة 1919«محمد ومحمود تيمور» إلى حل مشكلة ازدواجية اللغة من خلال «رسم الشخصيَّات بحيث تستخدم نفس التعبيرات التى يستخدمها الناس فى الحياة الواقعيَّة»، واستمرَّ«يحيى حقي» و«حسين فوزي» يكتبان حواراتهما بالعاميَّة، ولم تُحسم الغلبة لأيهما«الفصحى والعاميَّة»؛ لأن الإطار الذى كان يتحرك فيه حزب الأغلبيَّة «الوفد» كان إطارًا سلفيًّا إصلاحيًّا، يُثبِّط كل مبادرة جماهيريَّة مستقلة. لهذا جاءت انتفاضة 1935الطلابيَّة رافدًا حيويًّا فى مسيرة الحركة الوطنيَّة المصريَّة، يُؤكِّد عمق ارتباطها بالجماهير الشعبيَّة،مؤمنة بالعمل السياسى المستقل، مُوجِّهة الأنظار صوب الثقافة الشعبيَّة ومخزونها الحضارى الضارب فى جذور المجتمع، فصدر إبَّان هذه الفترة كتاب «تاريخ أدب الشعب»ل»حسين مظلوم رياض»و»مصطفى محمد الصباحي»فى يناير 1936؛ما أدى إلى ترسيخ دور»الثقافة الشعبيَّة»فى مشروع التحرُّر الوطني.كما أتت انتفاضة فبراير 1946التى قادتها»اللجنة الوطنيَّة للطلبة والعمال»لتؤكِّد الارتباط الوثيق بين القضيَّة الوطنيَّة والقضيَّة الاجتماعيَّة، وكان لهذه الرؤية انعكاساتها فى الثقافة الشعبيَّة التى تبدت فيها طبيعة الصراعات الاجتماعيَّة، حتى إن الباحث والكاتب الصحفى «أحمد رشدى صالح» الذى رأس تحرير مجلة «الفجر الجديد» لسان حال منظمة «الطليعة الشعبيَّة للتحرُّر» فى منتصف عام 1946،هو صاحب الكتاب التأسيسى المعروف باسم «الأدب الشعبي»الصادر فى الخمسينيات،كما كان لارتباط الكاتب والفنان الشعبى المعروف «زكريا الحجاوي» بجيل1946علاقة بتعرفه علي«مصادر ثريَّة للمعرفة، وبفتح سُبلٍ للحركة والعمل أمامه». وهنا تبدو العلاقة واضحة بين» الاهتمام بالثقافة الشعبيَّة وبين مشروع الثقافة الوطنيَّة، والتلازم الطردى بين تصاعد حركة الثقافة الوطنيَّة وبين تنامى الاهتمام بالثقافة الشعبيَّة وتعميقه ومنهجته»بتعبيره،عامدًا إلى التمييز بين»مشروع تأسيس ثقافة وطنيَّة مستنيرة»، وبين قيام الدولة بالسيطرة علي»النشاط المتسع فى مجال الثقافة الشعبيَّة لتضمَّه إلى منظومتها الثقافيَّة والدعويَّة لإشاعة ثقافة حشديَّة»؛وهو ما يردُّنا إلي»الوضع الصراعى الأوليّ،سواء بالنسبة إلى مشروع الثقافة الوطنيَّة،أو الثقافة الشعبيَّة». ولعلنا نتذكر المعارك الطاحنة التى خاضها «د.يوسف إدريس» ضد «المجلس الأعلى للفنون والآداب»عامى 1961و 1962 ورئيسه يوسف السباعي؛حين استبعد فى مسابقتيْن أدبيتيْن له المسرحيَّات المكتوبة بالعاميَّة والقصص القصيرة ذات الحوار العامي، فآثر»نعمان عاشور» الانسحاب، وأخذ»يوسف إدريس» يُدافع عن»لهجتنا البسيطة السلسة التى نتحدث بها»، وعن «قواعد الحياة وليس عن قواعد النحو». لكن «الثقافة الوطنيَّة»عند«عبد الحميد حواس» تكتسب صفتها الوطنيَّة من خلال عملها علي»تجميع أبناء الانتماءات الأوليَّة المختلفة حول مفهوم للاجتماع أرقي،هو مفهوم الوطن، وبناء وعى جديد يرى به المواطن لنفسه دورًا فى بناء المجتمع،وتحرير ذاته مع مواطنيه من القهر الداخلى والعدوان الخارجي، وتوسيع الجمهور الذى يتبنى هذا الوعى الجديد،ويُمارس مظاهره ممثلة فى مكوناتٍ ثقافيَّة تُعزِّز الهُويَّة الوطنيَّة»، لكن يتعين على خطاب الثقافة الوطنيَّة أنْ يُحدِّدَ لنفسه»منظورًا نحوالثقافة المتواترة بين فئات جمهور الثقافة الجمعيَّة المأثورة؛حتى يُؤمِّن لنفسه السُّبل التى تُمكِّنه من بثِّ أطروحاته بفعالية؛وتوصيلها إلى جمهورها المبتغي».بَيْدَ أن «عبد الحميد حواس»يحرص على استخدام مصطلح»الثقافة الشعبيَّة»، متجنبًا تعبيرات من قبيل «الفنون الشعبيَّة،أو الأدب الشعبي،أو الفولكلور»؛نظرًا إلي »جزئية هذه التعبيرات، وما إعتداها من خلط وتشويش، وما رانَ عليها من ظلال متكاثفة من الدلالات المتحيزة»،لكنه يرى بحق أن»التقابل بين«الثقافة الشعبيَّة» و«الثقافة الرسميَّة»يرمى إلى وضع تمييز أوليٍّ إجرائي»، على الرغم من إدراكه» أن هذا التقابل ليس من النوع البسيط الذى يجعل الثقافتيْن فى حالة انفصال حادَّة وقطيعة كاملة،فهذا لا يحدث إلا فى حالة الاستقطاب الاجتماعى الشديد،ومن جهة أخري،فالثقافتان تحكمهما علاقة جدليَّة متفاعلة،أساسها قانون الصيرورة والتغيًّر الدائم»؛إذ إن»ظهور توجُّهات جديدة تسعى إلى نفى القديم السائد وتجاوزه ليس فى حاجة إلى تنويه»، وهو ما نلمسه بوضوح»فى الثقافة الرسميَّة،خصوصًا إذا وضعنا فى اعتبارنا أنها ليست كتلة ثقافيَّة متجانسة،وإنما تتمايز إلى تيارات واتجاهات». غير أنه»يؤمن دومًا بأن» الثقافة الشعبيَّة ثقافة حيَّة ومتجددة،وإنْ تفاوتَ معدل السرعة فى التجدُّدِ من عصرٍ إلى عصر، وكما يسرى عليها قانون الصيرورة يسرى قانون الصراع بين المتناقضات»؛لهذا وجدَ أنها مع»انحسار المشروع الوطني، فإن مصادر الثقافة الإمبرياليَّة الكوزموبوليتانيَّة لا تكتفى باتخاذ الثقافة الجماهيريَّة مطيَّة لها أو قناة للتسلُّلِ عبرها، وإنما عن طريق مواقع متقدمة». لذا يحدوه الأمل دائمًا»فى أصحاب الثقافة الشعبيَّة، وفى خبرتها التاريخيَّة التى خرجت بها من مثل هذا الموقف الصراعى على مجرى تاريخها الحافل،فتصوغ مُرَكَبًا ثقافيًّا جديدًا ينفى الطالحَ ويُبقى الصالحَ فى وحدةٍ أرقى وفق منظور أصحابها ومصالحهم؛ لأنها «وحدةٌ ستتجاوز هذا الانقسام الثقافيّ إلى ثقافة موحَّدة لكل الشعب عندما ينتفى هذا الانقسام الاجتماعي». وبذلك يمكن للثقافة الشعبيَّة «أنْ تتمثلَ التغيُّراتِ المستحدثة،وتهضمَ خير ما فى المنجزات الإنسانيَّة»، وأنْ»تتحرك حركة جدليَّة صاعدة من ثقافة شعبيَّة إلى ثقافة لكل الشعب،مُعبِّرة عن مصالح القوى الصاعدة فيه،وتُدمج فى ذخيرتها أرقى ما فى الخبرة الإنسانيَّة».من هنا؛سيظلُّ دورها ودور أصحابها قائمًا وموصولًا في»صياغة الثقافة المستقبليَّة،كما أن لها دورها فى الإصلاح «الديموقراطيّ» بما تصوغه من»توجُّهات للمواطنين»، وكذلك فى تحقيق التنمية المُستدامة. وبذلك يأتى كتاب»أوراق فى الثقافة الشعبيَّة- بجزأيْه»للباحث الرائد الطليعي»عبد الحميد حواس»ليضعنا أمام مشروع حضاريّ جديد يستعيد الفعل الجمعى من براثن الفرديَّة الليبراليَّة الجديدة،منتصرًا للثقافة الوطنيَّة.