إنها الأم وحدها التى تستطيع أن تقدم البذل والعطاء فى أسمى درجات التفانى وإنكار الذات من أجل صغارها وفلذات أكبادها، دون أن تفكر لحظة: أيكونون أبرارا بها أم جاحدين!. وإذا كان الاحتفال بالأم وتكريمها فى مناسبة معينة أمرا محمودا، ويجب تأييده والمحافظة عليه، وتقديم الهدايا لها اعترافا بفضلها وإبداء المشاعر الطيبة نحوها ، فإن علماء الدين يؤكدون أن مكانة الأم فى الإسلام لا تتوقف عند احد أيام السنة, وأن للوالدين فى الإسلام مكانة عظيمة. حيث قرن الله عز وجل الإحسان إليهما بعبادته وحده سبحانه فقال تعالى “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”، وإذا كنا قد تعودنا فى مثل هذا الموعد من كل عام على الاحتفال بالأم والتسابق فى تقديم الهدايا لها فهذا قليل من كثير تستحقه كل أم طوال أيام العام، فكثيرون لا يعبأون بحالهم مع والديهم، أهما راضيان أم ساخطان، فمع بلوغ الشاب والفتاة، وحتى قبل الاعتماد على الذات، يبلغ الجحود والنكران والعقوق مداه، فبدءا من علو الصوت والتجاهل والتمرد، إلى السب والإهانة والتطاول، ثم الهجر، والقطيعة، وكأننا يوما لم نقرأ قوله تعالى “فلا تقل لهما أف”!. وعن فضل الوالدين وعقوبة الإساءة إليهما يقول الشيخ عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا، إن الله تعالى أمرنا بعد أمره بعبادته ببر الوالدين والإحسان إليهما، فى حياتهما وبعد الممات..كما أن النبى صلى الله عليه وسلم شدد على البر بالأم وبين أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وبالجملة حذر القرآن الكريم من الإساءة للوالدين بأقل ما يمكن أن يسوؤهما، فقال تعالى “إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما..”، وفى ذلك يقول العلماء لو أن هناك كلمة أقل من “أف” لنهى عنها الله عز وجل، و”الأف” هو أن يظهر الإنسان الضجر بين يدى والديه. ويوضح الشيخ الأطرش أن العقوق خطر كبير يقع فيه الأبناء وعده النبى صلى الله عليه وسلم كبيرة من الكبائر فقال: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا بلى يا رسول الله . قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين..”. كما بين عليه الصلاة والسلام أن كل ذنب يؤخره الله تعالى إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين يعجل الله به فى الدنيا فضلا عما ينتظر العبد من عقوبة فى الآخرة.. فقال صلى الله عليه وسلم (اثنان يعجّلهما الله فى الدّنيا: البغى وعقوق الوالدين)، وورد أيضا قوله: (كلّ الذّنوب يؤخّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين فإنّ الله يعجّله لصاحبه فى الحياة قبل الممات). وقال صلى الله عليه وسلم “من أصبح وأمسى مرضيا لوالديه أصبح وأمسى وله بابان للجنة، ومن أصبح وأمسى مسخطا لوالديه أصبح وأمسى وله بابان للنار”، قيل وإن ظلماه يا رسول الله؟ قال: “وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه”. وعن صور العقوق يوضح الدكتور ناصر محمود وهدان رئيس قسم اللغة العربية بجامعة العريش أن هناك صورا كثيرة ليست وقفا على السب والضرب والحرمان فحسب، بل كل ما عادل كلمة “أف” أو جاوزها من الابن فى حق أبيه أو أمه عد عقوقا وتعديا على حق الوالدين الذى أكده الله ورسوله فى غير موضع من القرآن والسنة. فكل ما يرغبه الأب ويعلمه الابن وهو قادر عليه فى غير معصية الله ويأبى تحقيقه هو تقصير من الابن فى حق أبيه. فليس العاق لوالديه الذى يضرب ويشتم ويطرد فحسب، وإذا تأملنا قوله تعالى “فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما” وأسقطنا ذلك على الواقع نجد أننا كلنا عقوق، إلا من رحم الله.. ومن صور العقوق تحميل الوالدين فوق طاقتهما من المطالب، وإحراجهما أو تعييرهما بوضاعة ظروفهما الاقتصادية أو المكان الذى يقيمان فيه. ومن العقوق كذلك إرغام الوالدين على قبول زيجة يراها الأبوان غير متكافئة. ويشتد العقوق بالأم حينما يفضل الرجل زوجته على أمه، أو يهمل أمه ويتنكر لها إرضاء لزوجه، أو ينشغل بأبنائه عن والديه، متناسيا أن حقوق أمه مقدمة على حقوق زوجته. ولتعلم كل امرأة أنها كما تفعل بأم زوجها حتما سيفعل بها إن خيرا فخير، وإلا فكما تدين تدان، وما أسرع الأيام. ومن أصعب صور العقوق حينما تنتهى رسالة الوالدين فى الحياة ويتخرج الأبناء ويتزوجون، وينشغل كل بحاله ويعانى الوالدان بمفرديهما الوحدة والضعف والمرض ويستجدون سؤال أولادهم وبقايا إحسانهم. فباسم المشاغل والأعمال وهموم الحياة والزوجة والأولاد يتخلى الأبناء عن والديهم ويقترون عليهم فى كل شيء حتى الاتصال بالهاتف. وقد يصل الأمر بالبعض إلى إيداع والديه دور الرعاية أو ما يسمى (دور المسنين) وينسى أن البر لا ينحصر فى تقديم الدعم المادى فقط، فالسؤال والتردد المستمر وتقبيل أيدى الوالدين بر لا يكافئه مال، وإن أسكن الابن والديه فى قصور فارهة. فمن أبلغ صور البر أن تقدم لوالديك ما يحبانه من دون أن يطلباه.