كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساء عندما خرج إلينا طبيب الرعاية المركزة بأحد المستشفيات الكبرى بالمهندسين طالبا ستة أكياس دم فصيلة «ب - سالب» لإنقاذ حياة أحد أفراد الأسرة المحجوز منذ يومين إثر نزيف حاد فى القولون، واعتقدنا فى البداية أن إدارة المستشفى تطلب منا الموافقة على تسديد مقابل الدم المطلوب، ولكننا فوجئنا بطلبها توفير أكياس الدم بعد أن أعطتنا مجموعة من عينة الدم المطلوب وشهادة طبية تفيد أن المريض فى أشد الحاجة للدم لإنقاذ حياته، واسقط فى أيدينا، فانطلقنا فى شبكة من خمس مجموعات متفرقة للمرور على كل ما له علاقة ببنوك الدم فى القاهرة الكبرى، والعجيب أن كل بنوك الدم المحيطة بنا ليس لديها أى رصيد من تلك الفصيلة أو الفصائل البديلة لها، ومرت 3 ساعات ثقيلة ولم نوفق فى الحصول على دم من أى جهة، وانتهى بنا الأمر إلى مركز لتلقى التبرعات بالدم ملحق بمستشفى فى حى الدقى، وعدنا بتوفير كيسين فقط من الفصيلة المطلوبة مقابل جمع 8 متبرعين من أى فصائل أخرى عن كل كيس، ولم يكن أمامنا سوى التقدم للتبرع فورا، و الاتصال بكل من يصلح لهذه المهمة واستدعينا عبر وسائل التواصل الاجتماعى الأقارب والأصدقاء الذين يحتمل أن يتوافق فصيلة دمهم مع الفصيلة المطلوبة، وتنفسنا الصعداء قليلا عندما وصلت أخبار من المستشفى بأنه تم تدبير كيس واحد فقط للمريض ولابد من توفير باقى الكمية فورا، وفى الحادية عشرة مساء - أى بعد خمس ساعات كاملة من العمل تحت ضغط عصبى فوق طاقة البشر - أثمرت جهود فريق العمل عن توفير 6 أكياس من أقرب الأقرباء وبعض المتبرعين من شرفاء جمعتهم الشهامة وحب العطاء، وعدنا فى منتصف الليل لنقف على أطراف أصابعنا أمام غرفة العناية المركزة حتى صباح اليوم التالى، ومع الساعات الأولى من الصباح قال لنا الأطباء إن الدم جاء متأخرا، وأن نسبة الهيموجلوبين كانت قد وصلت إلى الحد الأدنى، لكن رحمة الله كانت الأسرع وبدأ المريض فى التعافى بعد أن بدأ الدم يجرى فى العروق لتعويض النزيف الذى استمر ساعات طويلة احترقت فيها الأعصاب. والآن وبعد أن هدأت الأعصاب ومرت الأزمة على خير والحمد لله أطلت علينا بعض الأسئلة الصعبة التى لم تسمح بها الظروف أو الوقت فى أثناء الأزمة وهى: هل من المعقول أن تعجز بنوك الدم فى القاهرة الكبرى عن توفير كميات من الدم من فصائل مختلفة ولو بأى ثمن لنجدة الحالات المماثلة فى أقسام الطوارئ بالمستشفيات الحكومية أو غير الحكومية؟..وهل من المعقول أن يقف ثمانية متبرعين لساعات طويلة فى طوابير أمام بنك الدم للتبرع بأى فصائل متاحة قبل أن نحصل على كيس من فصيلة نادرة ومطلوبة بشكل عاجل لإنقاذ حياة مريض؟، وماذا يفعل المرضى البسطاء الذين ليست لديهم القدرة الصحية أو المادية للحصول على أكياس الدم؟ وكيف يستطيع من لا يجد من يجوب له القاهرة الكبرى أو من ليس له القدرة على استخدام شبكات التواصل الاجتماعى بحثا عن متبرعين للحصول على كيس دم لإنقاذ عزيز لديه؟..لقد تذكرت الدكتور ممدوح جبر وزير الصحة الأسبق رحمه الله الذى كرس أكثر من نصف حياته العملية فى إدارة بنك الدم بجمعية الهلال الأحمر من خلال ندوات ومؤتمرات فى كل محافظات مصر، ومحاولاته الدائمة زرع ثقافة التبرع بالدم باعتبارها رسالة إنسانية سامية، وهو يقول قولته الشهيرة على سبيل الدعابة: إن الدول التى لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الدم لمواجهة طوارئ الحوادث ومراكز الرعاية المركزة هى «دول ما عندهاش دم». د. هانى عبد الخالق أستاذ إدارة الأعمال