منذ أيام "ظهرت" القوات الأمريكية فى "منبج" بسوريا. كيف جاءوا؟ ومن مهد لهم التدخل البرى؟ كانت تلك أسئلة تجاوزها الجميع إلى ما هو أبعد وأهم والمتمثل فى إجابة على سؤال أخطر وأكثر أهمية : ماذا يريدون؟ وتأتى الإجابة السطحية المبسطة فى وسائل الإعلام الغربية والدولية لتقول إن دخول قوات برية أمريكية إلى الأراضى السورية يهدف إلى مساعدة قوات سوريا الديمقراطية (تم تشكيلها من عرب وأكراد وأقليات أخرى) للانتصار على تنظيم داعش والبدء فى الزحف نحو مدينة الرقة عاصمة التنظيم وأهم معاقله فى سوريا. ولكن يبدو أن الأمر يتجاوز "داعش" بكثير. فقد أعلنت قوات التحالف التى تقودها الولاياتالمتحدة أنها أرسلت مئات من الجنود الأمريكيين إلى قلب سوريا حيث تمت إضافتهم إلى مجموعة أخرى كانت موجودة بالفعل فوق الأراضى العراقية والسورية. وتم تبرير تلك الخطوة بأنها لمنع أية اشتباكات بين الفصائل السورية التى تدعمها كل من الولاياتالمتحدةوتركيا! ولكن يبدو أن المشهد الظاهر ما هو إلا ستار لمشهد آخر أكثر عمقا وخطورة يتم الإعداد له فى الوقت الحاضر. فقبل أن تنتهى معركة تحرير الموصل فى العراق وقبل أن تبدأ معركة الرقة فى سوريا بدأت التحركات تشير إلى محاولات رسم الخريطة الجديدة لكل من سورياوالعراق وربما تمتد لتشمل كل من تركياوإيران! فقد نبه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزانى إلى ضرورة وضع خارطة طريق جديدة للعلاقات المستقبلية بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية فى بغداد، مؤكدا على أنه عبر الحوار يمكن حل جميع المشاكل، ويجب أيضا وعبر الحوار وضع خارطة لمستقبل العلاقات بين كردستان والعراق. وقد تحدث بارزانى لوفد ضم عددا من الشخصيات والنخب السياسية والثقافية وعدد من البرلمانيين والإعلاميين العراقيين مؤكدا على وجوب احترام الرأى العام الكردستانى ورغبته وإرادته وتفهمها، وأوضح أن الشعب الكردستانى غير مسئول عن المآسى التى جرت على العراق، مشددا على أن مسئولية هذه الاوضاع تقع على عاتق المركز (الحكومة فى بغداد) وعلى الأطراف العراقية. وأضاف بارزانى أن العراق بُني على أساس الشراكة بين العرب والكرد ومراعاة حقوق المكونات الأخرى، مستدركا أن حصة شعب كردستان من تلك الشراكة كانت 4500 قرية مدمرة و182 ألف شخص قتلوا فى عمليات الأنفال وتغييب 20 ألف شاب كردى وقصف كردستان بالأسلحة الكيميائية. واستدرك أن افعال وقرارات الحكومة العراقية كانت ضد المبادئ التى جاءت فى الدستور، ووصل الأمر الى الثأر وتعميق الطائفية والحصار ضد البيشمركة وتهديد إقليم كردستان وقطع قوت الشعب الكردستانى، مضيفا أن كل هذا كان يعنى "فشل التوافق والفيدرالية وأسس الشراكة". وأكد بارزانى على حق شعب كردستان فى تقرير مصيره بنفسه، موضحا أن الاتحاد القسرى أو الانفصال القسرى لم يحققا النجاح فى أي مكان فى العالم مشيرا إلى أن "عملية استقلال كردستان ستكون بعيدة عن العنف وفى إطار الحوار والتفاهم ومن أجل معالجة جذرية للمشكلات". وعن مستقبل المناطق التى قامت قوات البيشمركة بتحريرها فى الحرب ضد "داعش" جدد بارزانى التأكيد على أنه لا يحق لأى شخص أو جهة فرض صيغة محددة على أهالى هذه المناطق، مشددا على أن "مصير هذه المناطق سيحدده أهلها بأنفسهم" إذا فقط وجد أكراد العراق الفرصة سانحة لفتح ملف الاستقلال الخاص بكردستان العراق. ومن المعروف أن فتح الملف الخاص باستقلال كردستان سيفتح على المنطقة أبواب جديدة للجحيم. فاستقلال الكرد فى أية دولة بالمنطقة يعنى مولد دولة جديدة تكون أهم أولوياتها إعلان استقلال وضم باقى الأقليات الكردية فى كل دول الجوار بكل من إيرانوسورياوتركيا، وهو ما يعنى أن تلك الدول على شفير فقدان جانب كبير وهام من أراضيها وشعوبها. وهناك سيناريو يقول إنه من الممكن فى غضون السنوات الخمسة المقبلة أن يعلن كرد العراق استقلالهم مع حصولهم على نوع من التطمينات من تركيا إذا قرروا التغاضى عن حقوق أكراد تركيا فى خطوة مماثلة، إلا أن السلاسة التى ستسير بها هذه العملية ستعتمد على إمكان التوصل إلى اتفاق بشأن الحدود الفاصلة بين ما سيتبقى من العراق ودولة كردستان الجديدة. ولكن هل ستسكت الولاياتالمتحدة؟ الإجابة هى لا؛ فقد أصبح الأمريكان جيرانا فعليين بقواتهم وسلاحهم ونفوذهم فى الشرق الأوسط منذ عام 1990، وهم يعارضون الإستقلال التام لكردستان منذ عام 2014. ولكن هناك من يجادل بأن ذلك فى عهد أوباما واليوم هو عهد ترامب؛ فاختفاء داعش والتغلغل الإيرانى فى سوريا، والذى جعلها أقرب من أى وقت مضى من قلب إسرائيل، بالإضافة إلى الوجود الروسى العسكرى الطويل الأمد فى سوريا، سيدفع بمتخذ القرار فى واشنطن إلى تغيير موقفه السابق حماية للمصالح الأمريكية وإسرائيل. إن الواقع يقول إن تقسيم العراق واقتطاع كردستان منه بشكل كامل وإقامة دولة كردية جديدة مستقلة هناك سيكون بداية لتقسيم كامل العراق إلى دويلات متناحرة تحول البلاد إلى جحيم. وسيزحف الجحيم على سوريا حيث أكرادها ومنها إلى باقى دول المنطقة بأسرها ليتم تقسيمها وفق أسس دينية وعقائدية وعرقية. وهكذا وعلى ما يبدو وضع أعداء العرب والسلام المنطقة بأسرها فى مأزق جعلها، وهى تستعد للخروج من جحيم "داعش"، أمام انزلاق نحو أبواب جحيم جديد. لمزيد من مقالات طارق الشيخ;