أمراضنا صنعت داخل كل منا ( أو داخل كل شخصية من شخصيات الرواية) ذئبا أو مصاصا للدماء , يتحين الفرصة لينهش لحم غيره , أو يتلذذ بعذابه (إلا من رحم ربى), فالطبيبة التى تعلمت بالخارج تستغل المريض وتعتبره مجرد فأر لتجارب علاجية لم تكتمل, وذو السطوة وشيخ الجامع يدفعان أحد فقراء القرية لقبول الدية بعد مقتل ولديه , ولما يرفض تقبل الأمر يغادر الصعيد كله مهاجرا للشمال , والأستاذ الجامعى الكبير يستغل مساعديه ويقهرهم , والمثقف العاجز المنعزل عن زوجته وبيته يحمل فشله الأسرى لزوجته متجاهلا ضعفه الجنسى ... سلسلة طويلة وشبكة محكمة الخيوط من الاستغلال الجسدى والنفسى بين شخوص الرواية. كل ذلك صاغه خالد عميرة بلغة محكمة وعالم من الصور والأخيلة التى يصوغها بكل حرفية ورهافة حس , مانحا اللغة بعضا من روحه وأرواح شخوصه , حتى إذا لجأ إلى استخدام لغة عامية , بل وأحيانا (فرانكو آراب) كما فى فصل (رسائل صافى السنارى الألكترونية) كان ذلك حتميا ليتوافق مع طبيعة الرسائل الألكترونية وطبيعة الشخصية الشابة الأرستقراطية المرفهة. ففى عمله الروائى الأول (بورفيريا الروح) , وبعد مجموعته القصصية الجميلة (ربما) ,يقدم لنا الكاتب خالد عميرة عملا شديد الخصوصية والتفرد, سواء من حيث الفكرة أو الشكل أو الأسلوب. فالفكرة تتعلق بمرض (بورفيريا) النادر الذى يصيب شابا فى مقتبل العمر , مما يؤثر على هيئته الخارجية ليصبح شكله أقرب إلى مصاصى الدماء من حيث بروز الأسنان أو التشوهات الجلدية أو صعوبات التعرض للشمس ... وغيرها , وما يصاحب ذلك من معاناة نفسية ونوبات تشنجات واكتئاب تصل أحيانا إلى حد محاولة الانتحار (قررت الانتحار أكثر من مرة ، وفى كل مرة كنت أتراجع قبل اللحظة الحاسمة .. ليس خوفا من عذاب الآخرة .. لست مؤمنا إلى هذا الحد ، ولكنه الرعب الإنسانى العادى ، بسبب الخوف من انسلاخ الروح وفقدان الأهل, والسير نحو المجهول.. ربما لم أكن شجاعا بما يكفى ، أو ربما هو التشبث بأمل قد يجئ ، يلمع هناك فى آخر النفق المظلم.. لكنه لا يجئ). أما من حيث الشكل فقد قسم الكاتب عمله إلى 7 فصول يحمل كل منها اسم أحد أبطال العمل ليكون هو البطل والسارد فى الوقت ذاته, كل ذلك فى إطار خيط درامى واحد يجمع الشخوص جميعا , لتتشكل اللوحة الكاملة من هذا الموزاييك الرائع. أما لغة السرد فهى حميمية ,عذبة, تعبر عن روح الشخصيات , ومخاوفها , آمالها وآلامها , وقد لجأ عميرة إلى المونولوج فى مقاطع عديدة بالرواية ليغوص فى أعماق الشخصيات وأبعادها النفسية (أستشعر دبيب الموت حولى طوال الليل ، أشعر به يتسلل عبر النوافذ والأبواب مع ضوء القمر الخابى ، أشعر به يختبئ خلف الستائر ، تحت المقاعد ، يتربص بى لحظة النوم ، ينتظرها ، ما إن أغفو حتى يقفز فوقى ، يجثم على صدرى .. لماذا هو جبان إلى هذا الحد؟ .. لماذا لا يهاجم ضحاياه غالبا إلا ليلا ؟ .. لماذا يختارهم غالبا من النائمين عديمى الحيلة؟ ) . والرواية الصادرة عن دار روزنامة للنشر والتوزيع فى 180 صفحة تشير إلى حجم التشوهات والأمراض الوراثية وغير الوراثية ,النفسية وغير النفسية , التى أصابتنا جميعا كأفراد , وأصابت مجتمعاتنا أيضا , تشوهات لها ألف سبب , مظاهرها واضحة على ملامحنا وفى نفوسنا , لكننا عندما نراها أمام أعيننا فى مرآة روحنا , نكسر المرآة – تماما كما فعل بطل الرواية - ولا نسعى للعلاج. وإذا كانت الرواية عملا خياليا بالأساس فإن المؤلف لم يركن إلى ذلك فقط , لكنه بذل جهدا إضافيا وكبيرا فى توثيق المعلومات الواردة بالرواية , متحريا الدقة فى سرد التفاصيل , سواء الخاصة بأماكن الأحداث أو المتعلقة بالمرض والعلاجات المصاحبة له , دون أن يلجأ إلى الاستسهال , أو الكتابة بتعميم يخل أو يضعف من نصه. وقد لجأ الكاتب إلى النهايات المفتوحة لكل فصل من فصول العمل , وللرواية كلها , فكل نهاية هى بالتأكيد بداية لعالم جديد ودنيا جديدة وانطلاقة جديدة , تماما كما كانت نهاية أحداث (بورفيريا الروح) بمثابة انطلاقة جديدة لخالد عميرة فى دنيا الرواية.