هى حبيبة حبيب المصريين.. هو نصفها الآخر.. ومن أسهم فى إنضاجها وتشكيل وعيها الفنى و الإنسانى. المصرية اللبنانية التى أتت للقاهرة فى عمر الستة عشر عاما لتكون الجنية التى طالما انتظرها الصياد لتخطف قلبه.. وعروس البحر التى جعلته «يصالح الزمن الكداب النساى» و يفتح « بيبان للفرحة الجاية فى العمر الجاى».. كانت «مكتوباله.. و مترتباله».. هى الحبيبة التى تستشعر أنفاس الحبيب فى كل ركن..و تتحدث عنه بلغة الحاضر..وكأنه معنا.. تتدفق كلماتها وهى تتغزل فى شخصه الاستثنائى الذى أسر قلبها وعقلها..وكانت شاهدا طوال أكثر من عشرين عاما على مسيرته الإنسانية و الإبداعية التى شكلت وجدان ووعى الملايين. تفتح قلبها الموجوع لتروى لنا من بين دموعها قصة حب «استثنائية»..وغاية فى الرومانسية تتوه كثيرا بين ثنايا الذكريات التى تصف كل لحظة فيها بالجميلة طالما هى معه..و تتعثر الكلمات على لسانها وبين دموعها وهى تعبر عن مدى حب الناس لزوجها و حبيبها شاعر المصريين و المهموم بهم دائما . هى الحبيبة التى تردد أن محبوبها هو حبيب الكل، إنها مرفت الجسرى، حبيبة قلب وزوجة سيد حجاب. وصفها بمكافأة نهاية الخدمة ثم عاد ليؤكد لها فى أيامه الأخيرة أنها قبلة الحياة. بينما ترى هى أن وجوده كان «الحياة نفسها». استقبلتنى فى عشهما الدافئ الذى تكاد جدرانه و كل ركن فيه يبوح بقصة عشق استثنائية تليق بشاعر الحق و الخير والجمال..وتركتنى لأختار موضع جلوسى لتفاجئنى بأننى اخترت مقعد « الحبيب» الأثير، لتكون بداية مشجعة لحوار عن شاعر و انسان استثنائى ، كان دائما ما يرى انه أتى للعالم فى مهمة خاصة.. وعن الحب والحق والخير و الجمال فى حياة سيد حجاب. وعن بداية تعارفهما و قصة حبهما، باغتتنى بكلمات أسطورة الغناء بوب مارلى: «أنا على يقين أن هذا يحدث مرة واحدة في حياة كل منا، أن تعثر على شخص يقلب حياتك رأسا على عقب. تفتح قلبك وتخبره بأشياء لم تذكرها لروح أخرى، يلتهم ما تقوله بنهم، بل ويرغب في سماع المزيد. تشاركه آمال الغد، الأحلام التي لم تتحقق، الأهداف التي لم تنجز، الاحباطات العديدة التي ألقتها الحياة في طريقك. وعندما تمنحك الحياة شيئا رائعا، تفقد الصبر ولا تطيق الانتظار فتعدو إليه لتخبره به، لأنك تدرك روعة أن تشاركه هذه اللحظة. لا يشعر بالحرج أن يبكي معك حال تألمت، أو أن يشاركك الضحك عندما تسخر من نفسك. لا يجرح مشاعرك، أو يجعلك تشعر بعدم الجدارة، لكن بالأحرى يجمع شتاتك، يلفت انتباهك لما فيك من تميز وبهاء. لا يمارس عليك أية ضغوط، لا غيرة، أو منافسة، فقط تنعم بالهدوء في وجوده.» قائلة كأنه بيتكلم عننا.. أنا وسيد. لتعود إلى سنوات البداية، وهى اللبنانية المولد التى أتت لمصر فى عمر ال 16 عاما لظروف عمل والدها و لتدرس الكيمياء العضوية فى جامعة القاهرة. ثم الماجستير وفى نفس الوقت تدرس القانون فى معهد الموسيقى العربية، ثم تقرر بعدها الذهاب لألمانيا لاستكمال مرحلة أخرى من الدراسة العلمية. لكن هنا يتدخل القدر وعشقها الموروث من العائلة للموسيقى والغناء. « قررت فجاة الوقوف مع نفسى، وسؤالها عما اريده بالفعل ووجدت وقتها اننى اجد نفسى فى الغناء و قررت العودة لمصر باحثة عن سيد حجاب الذى كنت اعشق اشعاره ،لأغنى من كلماته. وبالصدفة وجدت عند زيارتى لإحدى الصديقات ببون مجلة صباح الخير بها حوار رائع كانت قد اجرته الجميلة ماجدة الجندى معه، فأدركت أن القدر يدفعنى لتحقيق حلمى. وعدت إلى مصر ، لنتقابل أنا و الشاعر الكبير عن طريق صديق مشترك فى نوفمبر 94، سمع صوتى و شجعنى وقال لى سننتظر راى عمار الشريعى، الذى اثنى بدوره على صوتى لكن طلب المزيد من التدريب. ليتوقف بعدها موضوع الغناء ويتحول لهواية، و تبدأ قصة حب تملكت منى و لم أعرف متى بدأت وماذا حدث و كيف تزوجنا. لكننا كنا نجد أنفسنا نتقابل يوميا، نزور معرضا فنيا..نحضر لقاء ثقافيا فى قهوة جريون..نستمتع بمشاهدة عرض مسرحى او أمسية فنية..تلتقى الأفكار..ونتشارك الاحاسيس و تقربنا كل يوم معان مشتركة وحب للفن والجمال، وكأنه أمر طبيعى..وكأننا نعرف بعض منذ زمن بعيد.. وكانت البداية ليستمر تقاربنا و ينمو وعيى الثقافى و تذوقى الفنى على يديه على مدار اكثر من عامين، كان قد التقى خلالهما بعائلتى الذين أحبوه مثلما احببته. و اعتبروا ان وجوده فى حياتنا امر طبيعى. وكنا نشعر أن كلا منا كان يعيش حياته فى انتظار لحظه اللقاء. حتى اننا بعد ان تزوجنا فى ابريل 1996، كان حينما يريد تذكر حدث ما كان يقول لى « ده كان ( ق.م) أم ( ب.م) اى (قبل مرفت أم بعدها).. فحياتنا الحقيقية بدأت حين التقينا. وكان زواجنا بسيطا بدون مظاهر ورسميات..كان كل همنا ان نكون معا..وهو ما حدث ببساطة..وكأن زواجنا تحصيل حاصل.. حتى انه كان ينسى و يداعبنى بعد الزواج قائلا: « ما انتى كويسة و جميلة..ما تيجى نتجوز؟» فى منزل يحمل كل ركن فيه قطعة فنية متميزة و راها حكاية و كل مكان فيه يروى قصة عشق استثنائية، كيف كانت الحياة مع مبدع بدرجة حساسيته وانسانيته ، وكيف كان يعبر عن حبه ومشاعره لك؟ من وقت أن التقينا كنا متشابهين فى أفكارنا و مواقفنا ورؤانا..كنا نشعر اننا واحد.. فنحن شخصيتان غير تقليديتين. وكان البعض يقول لنا أننا نشبه بعض..حتى أن الفنان الراحل عبد الهادى الوشاحى حين التقانا معا أول مرة ..نظر لنا و قال لنا « انتو شبه بعض» كنا نستمتع بالسفر معا..زيارة الجاليرهات و المعارض الفنية..وننتقى معا القطع الفنية التى ترينها من جزر سانتورينى و مورانو..وأخرى من مزاد فى ايطاليا أو قطع خزفية من تركيا..نلتقط من هنا و هناك ما يجذب عيوننا ويأخذ قلوبنا ودائما ما كان رأينا واحدا. هو انضجنى جدا..كنت دائما شخصية قليلة الكلام، واستطاع هو بسلاسة أن يكشف جوانب شخصيتى المكنونة و كان يشجعنى دائما على السعى وراء طموحاتى و لا يفرض علي رأيا أو موقفا. وحين بدأت العمل فى مجال الاستشعارعن بعد و تحديث الخرائط الرقمية.. وعملت دكتوراه فى البيئة، كان دائما فخورا بى. فعلاقتنا قوية، لكنها حرة طليقة وتحترم الخصوصية ..كل منا يدعم الآخر بدون أن يسيطر عليه. وربما كانت اشعار جبران الذى نحبه، الأكثر تجسيدا لطبيعة علاقتنا، ومفهوم الزواج لدينا بأنه ميلاد جديد « ولدتما معا، وتظلان معا.. ولكن، فليكن بين وجودكم معا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات بينكم.أحبوا بعضكم بعضا، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود..غنوا و ارقصوا معا، و كونوا فرحين ابدا ، ولكن فليكن كل منكم وحده، كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده ولكنها جميعا تخرج نغما واحدا» هل كتب قصيدة فى حبك؟ قليلا ما كان سيد يكتب عن أشخاص بعينهم..لكنه كان دائما يردد على مسامعى منذ التقينا قصيدته التى غناها الحجار» انتى طلعتيلى منين..ودخلتى حياتى ازاى..فى عنيكى حنان و حنين..وفى صوتك بحة ناااى..طيبتك خليتنى صالحت الزمن الكداب النساى..و فتحت بيبان للفرحة فى العمر الجاى.» ثم كتب لى قصيدة «دى مكتوبالى» التى غناها الحجار أيضا. و يقول أننى « الشجرة أم شوك وضل» لقبنى أيضا بمكافأة نهاية الخدمة ثم عاد و قال لى فى أيامه الأخيرة أنه أخطأ و اننى فى الحقيقة «قبلة الحياة» فارق السن بينكما حوالى 24 عاما، هل كان يمثل لك مشكلة؟ لم أشعر أبدا أنه أكبر منى..بل على العكس كنت أشعر بطفولة روحه و طيبتها و براءته وتلقائيته أنه أصغر منى..و أنه طفلى الحنون. كما أن كلا منا يثق بالأخر ثقة كبيرة، ولم لا وقد وجد كل منا ضالته وحبه الكبير فى الآخر. فلو لم أقابل سيد ، كنت فى الغالب سأكمل حياتى بدون زواج، لكنه انسان استثنائى. يقولون إن المبدعين أصحاب مزاج متقلب، فهل كان شاعرنا الكبير كذلك؟ تلمع عيناها و تتحدث بروح مشجونة بغرام وشوق ولوعة الفراق قائلة: لم أشعر أبدا بتقلب مزاجه، حتى حين تلح على راسه فيض الافكار، ولا يرد عليا حين أحدثه، كنت أعلم أنه أمر طبيعى و فترة استثنائية، واتركه لافكاره لبعض الوقت. وكان يصحو من نومه كثير من الاحيان ليدون بعض ما جال بخاطره من الهام ثم يعود للنوم مرة اخرى و كان يقول لى أن ما يستمر هو الحقيقى، أما الافكار التى لا تستقر فى الذاكرة فليست هى الأفضل. كان فى سنواته الاخيرة يفضل مثلى قضاء الكثير من وقته بالبيت وأنا كذلك، حتى أنه كان يقول لأصدقائنا « الست دى اتجوزتنى و ستتتنى»..وكان يحب الأطعمة اللبنانية من يدى ويد أمى ويقول « احلى أكل أكلكم» وكنت استمتع بالجلوس جانبه، حتى لو لم نتكلم، كان كل منا يقرأ أفكار الآخر. فهو دائما بسيط و غير نمطى وحتى حين كان ينتهى من أحد أعماله المهمة و ينتابه قدر من الاكتئاب خوفا من عدم قدرته على تقديم جديد، كان أبدا لا يشعرنى بذلك..انا من كنت اشفق على احساسه المرهف. فهو مرهف الحس جدا، حتى كانت تدمع عيناه أمام أى عمل يؤثر فيه..واذكر دموعه التى فاضت بعد أن رأى العرض المسرحى الشبابى:» 1980 وانت طالع» . هو كان دائما على يسار السلطة وكانت اشعاره وقصائده بها الكثير من الجرأة، ألم يكن يسبب له ذلك مشاكل؟ هو دائما طيب و حكيم ووديع لكنه عنيد فى الحق ويكره الظلم أى ظلم..ثورى بطبيعة الحال ينشد كشاعر الكمال لكن بهدوء وبلا صخب أو ضجيج او صوت عاليا. كان دائما بعيدا عن السلطة و كنت اقلق عليه كثيرا فترة ما قبل الثورة بسبب كتاباته خاصة حين كتب «قبل الطوفان الجاى» التى نشرها فى 2009 واستشرف فيها ما سوف يحدث. وكان فى فترة قبل الثورة مستبعدا من جوائز كثيرة و لم يحصل على جائزة الدولة التقديرية ووسام الدولة للعلوم و الفنون غير ايام عدلى منصور. لكنه أبدا لم يكن منشغلا برضاء السلطة أوجمع المال.. كان دائما متجة للناس..مهموما بهم ويبحث عنهم..ويرى ان دوره الحقيقى هو تشكيل وعيهم و الوصول لوجدانهم وأفكارهم، ودون أن ينتمى لحزب أو تنظيم سياسى، وكانت جائزته هى حب الناس. كان كأنه فى حالة تآمر غير معلنة مع الناس.. حتى تتراته الدرامية كانت تتضمن معانى ضمنية هدفها وعيهم ورفع الظلم عنهم. واذكر أنه أيام مسلسل جحا المصرى، كان الفخرانى يحدثه يومياقائلا « انت هتسجنا» فكلمات الأغانى كانت جريئة جدا «غوروا و سيبونا..ضاع ورث ابونا.. ما هو لو هابونا ..لا هينهبونا ..و لا يرهبونا و لا يركبونا.. والجوع خيلنا..شىء فاق خيالنا.. خلصت حيلنا..هنبيع عيالنا..دول شطبونا» لكنه كان لديه احساس دائم أنه « مش لازم يسكت عن الحق» و يعمل و يقول اللى فى دماغه. وكنت أوافقه لانى اشعر أن ذلك ما يسعده. فهو أبدا لم يكن له وظيفة ثابته و لم يضع نفسه فى قوالب، لكنه يعيش للناس وبهم. وكنت أرى الكثيرين يأتون للسلام عليه و يقولون له « انت بتقول الكلام اللى احنا مش عارفين نقوله» فهو محب جدا للحياة.. للناس و يشعر بهم جدا.. هو مانح السعادة و الفرح لأى حد معاه، زوجته، ابنته، أصدقائه..لكل الناس. فهو كان يشعر أنه أتى هذه الدنيا لمهمة وهى تحقيق العدل و الحق و الجمال، و كما قال فى آخر قصائده التى ينشرها «الاهرام» اليوم لاول مرة فى صحفحته الأولى خليفة الله «أنا..مش جاى هنا اضايف.. والارض يورثها مين؟ إلا عباد صالحين حنقيمها جنة عشانا فين نكون طامحين». وتضيف: هو حاسس نفسه اخ لكل الناس..ابن البشرية و الانسانية. هل شعر مع اندلاع ثورة يناير بأن احلامه للناس بدأت تتحقق؟ كانت فرحته بالميدان لا توصف، كان يعيش أسعد أيامه وقت الثورة. «انا كنت اقول ان الطوفان جاى جاى اكيد..وقبل ما اكمل كلامى وصل» و كان يردد كان نفسى صلاح جاهين يكون هنا..اسامة انور عكاشة..محسن زايد..ليروا أحلامهم تتحقق . فهو دائما متفائل، ولديه أمل فى الأجيال الجديدة، كان يقول لى دائما ان من يهضم تاريخ البشرية يعلم ان عهود الظلام لا تستمر أبد وأنه لابد وأن يأتى نهار. وحتى بعد ما تعثرت الثورة فى الكثير من خطواتها، كان لديه الكثير من الأمل والتفاؤل وأسعدته ثورة يونيو ، فهو دائما لا يفقد الأمل فى بكره أحلى ويراه دائما فى جيل جديد سوف يصنع وطنا جميلا. ويظل فيض الحوار عن الرائع سيد حجاب متدفقا لا ينضب، فهناك الكثير و الكثير الذى لا نعرفه عن حامل رسائل الحب و الحق والخير، سواء فى خصوصيته الانسانية او على مستوى ابداعاته الكثيرة ، ومنها 5 أوبرات عربية قدمت على عدة مسارح و مسلسل درامى « وردة النار» لم ير النور، لكن الوقت و المساحة فرضا نهاية اللقاء مع حبيبة سيد حجاب، على وعد بلقاءات أخرى فى حب شاعر الانسانية.