بداية يجب أن يكون في الحسبان عند أي تقييم لمستجدات الموقف الأمريكي أن الرئيس ترامب وضع شروطاً لتخليه عن حل الدولتين، وهو بالطبع يعلم أن الجانب الفلسطيني يرفضه وغالبية الشعب الإسرائيلي ترفضه وفي مقدمتهم نتنياهو، لأنه يتعارض مع وعود سابقة له في هذا السياق، ولأن ضم مليونى فلسطيني لإسرائيل يتعارض مع حلمه الكبير المتمثل في "يهودية الدولة".. ويجعله بين خيارين أحلاهما لا يطاق: الأول هو تأسيس دولة لكل مواطنيها والثاني الإعلان الرسمي عن دولة التمييز العنصري كبديل لدولة الاحتلال. الرابح شكلاً وعلى المدى القصير من لقاء نتنياهو الأول مع ترامب هو عناصر على يمين بنيامين نتنياهو (أي أنها ذات مواقف أكثر تطرفاً منه) استبقت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لواشنطن بتصريحات تطالبه بالتخلي عن حل الدولتين. وكان من بين تلك التصريحات ما قاله وزير التعليم وزعيم حزب البيت اليهودي نفتالي بينت الذي قال: توجد حالياً دولتان للفلسطينيين، وليس واحدة: الأولى في غزة والثانية في الأردن، ولا حاجة على الإطلاق لدولة فلسطينية ثالثة. والرابح الثاني على المدى اللحظي هو نتنياهو الذي استثمر اللقاء مع الرئيس الأمريكي المنتخب في إلهاء الرأي العام الإسرائيلي عن قضايا الفساد التي كانت تحاصره هو زوجته ومحاميه، بعد أن كادت تدفع به لمرافقة رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت في السجن، ولذلك عبر نتنياهو -بعد دقائق من اللقاء- للإسرائيليين عن سعادته الغامرة بالاستقبال الدافيء والممتاز معتبراً أنه "يوم ناجح لدولة إسرائيل". لكن بمزيد من التدقيق سنجد أن نتنياهو لم يقنع ترامب بأن يتحرك عمليا ووفق جدول زمني لتفعيل وعده خلال الحملة الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية للقدس، بناء على قرار للكونجرس في هذا الصدد تم اتخاذه عام 1995، كما أنه طالب بكبح الاستيطان لفترة. واستجاب لحل نظري لم يطرحه نتنياهو في الأساس وهو إلغاء حل الدولتين.. ولذا كان نتنياهو حصيفاً حين رفض الاستجابة لرفع سقف توقعات المتشددين في إسرائيل والمطالبة بالكثير من واشنطن في هذا التوقيت. وكان لافتاً خلال لقاء نتنياهو – ترامب تجاهل الدور الروسي في المنطقة، وتجاهل اتخاذ موقف جديد من إيران، باستثناء وعد مطاط بألا تمتلك إيران مستقبلاً قنبلة نووية. وكان لافتا أن ملامح البديل لحل الدولتين غير متبلورة، وهو النقصان الذي يعاني منه حتى أشد المتحمسين لهذا السيناريو، فكيف سيتم التعامل مع الشعب الفلسطيني في حالة ضم الأراضي المحتلة هل سيتم منحهم جوازات سفر وحق الترشح التصويت؟ وهل يحق لأحمد طيبي أن ينفذ تهديده بالترشح لرئاسة الدولة الواحدة؟ وهل ستستمر المساعدات الإنسانية ومساعدات غوث اللاجئين في حالة الاستقرار على دولة واحدة؟ وهل يقبل العالم دولة أبارتهايد مفضوح بعد نحو ربع قرن على اختفاء أخر نظام عنصري علني في العالم متمثلا في نظام بريتوريا بجنوب أفريقيا؟ في ظل إدارة أمريكية جديدة تقود عملية السلام بإيقاع مختلف وتصور غير تقليدي، لا بديل عن توحيد الصف الفلسطيني للبرهنة على أن المقاومة لا تزال بديلاً مطروحاً وجزءاً أصيلاً من معادلة التسوية، وأن نموذج الدول المنقسمة على ذاتها المتناحرة على غرار سوريا واليمن والعراق وليبيا لن يتكرر في فلسطين، وهذا يتطلب التنسيق بين الدول العربية المعتدلة لبلورة أفكار غير تقليدية واقعية بعيداً عن أفكار كلينتون حول السيادة الأرضية والسيادة السماوية .. يفهمها رجل الأعمال ترامب، ويقرها رجل الشارع العربي. إن جوهر أي حل يتصدى لرغبة الإدارة الأمريكية في "حلول تجريبية" ربما تدفع المنطقة بأكملها ثمناً فادحاً له.. يجب أيضاً أن يرتكز على إقناع اليسار الإسرائيلي بأن سياسة "اللا حل" التي يروج لها نتنياهو، وقد يفهم من تصريحات ترامب أنه يؤيدها، ليست في مصلحة إسرائيل، وأن أي تحرك عربي يجب أن يضع في حساباته الاستفادة من مواقف أيهود باراك الذي أدرك أن الوقت مناسب الآن لكي يتراجع عن قراره باعتزال العمل السياسي، خاصة وأن له خبرة عسكرية طويلة وأيضا خبرة سياسية عميقة كوزير دفاع ثم كرئيس وزراء، ويمكن أن يكون له شركاء طبيعيون من أعداء نتنياهو مما يمثل جبهة ضغط أو بديل جاهز لنتنياهو، خاصة وأن باراك صرح بأن ما خلصت إليه مقابلة نتنياهو - ترامب "لا تسعد سوى الإسرائيلي اليميني الكفيف". تقديري أن ترامب الذي كان خلال اللقاء ينادي بنيامين نتنياهو ب "بيبي"، بينما كان حرص الأخير على أن يناديه ب "السيد الرئيس" كان أشبه بمدرس حازق يخدر تلميذه المتمرد المصر على إضاعة الفرص السانحة للتقدم، بحفاوة الاستقبال وبهدايا تافهه فقط لكي يجعله مهيأً لقبول حلول وسط رفضها على مدى عقود طويلة. فقد ربط تأييده بموافقة الطرفين على حل أو صفقة. وهو ما يعني أن منح الفلسطينيين حق الفيتو ودفع حكومة اليمين المتطرفة للعمل على استرضاء الفلسطينيين لكي تحصل على "مباركة ترامبية". ويعزز هذه الرؤية استطلاع حديث للرأي أظهر أن 12بالمئة فقط من الإسرائيليين يعتقدون أن إسرائيل ستضم الضفة الغربية وتطرد سكانها، وأن 10بالمئة فقط من الفلسطينيين يعتقدون أنه يجب احتلال فلسطين التاريخية وتصفية اليهود منها، وهو ما استوعبه نتنياهو ودفعه للحديث فور انتهاء اجتماعه بترامب بأسلوب مختلف عن الاستيطان قائلا للصحفيين الإسرائيليين: ترامب طلب مني كبح البناء في المستوطنات بالضفة الغربية، وأنا على استعداد لبحث طلبه. والملاحظ أنه تهرب من الرد على سؤال: هل تخلى عن التزامه بحل الدولتين وهو الالتزام الذي تعهد به بنيامين نتنياهو في خطاب شهير بجامعة بار إيلان عام 2009 – بعد 10 أسابيع من توليه فترة ولايته الثانية- ويطالبه أعضاء الائتلاف الحكومي الأكثر تطرفا بالتنصل منه. تطرح إدارة ترامب بعد لقاء نتنياهو ما هو مطروح بالفعل منذ سنوات طويلة، لكن بعد إعادة تغليفه حيث تعرض ما هو "أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة" وهذا يقوم أولا على تبادل أراضي وسكان، يتيح المساومة على الإبقاء على نحو نصف مستوطنات الضفة الغربية وتوفير الطرق والفضاء التوسعي المستقبلي لها مع إزالة النصف الآخر من مستوطنات لإتاحة المجال أمام "دولة بلا جيش وبلا قدرة مستقبلية على الحياة الطبيعية" ضمانا لأمن إسرائيل. و هذا في الواقع قنبلة موقوتة يجب ألا ينفرد طرف فلسطيني حتى ولو كان السلطة الفلسطينية بالتعامل معها. لمزيد من مقالات د. أحمد فؤاد أنور