قال لها السائق حين طالبته بأن يطرق باب إحدى شقق الحى الشعبى ليسأل عن حبيبها القديم، (إحنا كده ابتدينا نتورط، لا يا مدام دى مسئولية كبيرة، إحنا غير زمان، النهارده غير إمبارح، غير 16 سنة فاتوا، النهارده ممكن الباب يخبط تلاقى مطواة قرن غزال فى رقبتك، سكينة بين ضلوعك، ويالَّا يا حلوة طلعى الصِيغَة، النهارده على كل باب فى عين سحرية، لامؤاخذة بقى على أيامك كان فيه عين سحرية؟). أجابت (على أيامى كانت كل العيون بتحرس بعضها، كانت كل أبواب الشقق مفتوحة فى أمان، كانت كلمة أهلاً وسهلاً على كل لسان). هذا الحوار كان فى النصف الأخير من ثمانينيات القرن الماضي، على لسان أبطال فيلم (الدنيا على جناح يمامة) الذى صاغ أحداثه القدير وحيد حامد، ونفخ فيه من روح مصريته المخرج الراحل (عاطف الطيب) قبل ثلاثين عاماً، وجسد شخوصه الرئيسة (محمود عبد العزيز وميرفت أمين). وخلال عقود ثلاثة تلت هذا العمل، استحالت كل رسائل الإنذار فيه إلى واقع يلف مجتمعنا، وانتقلت (العيون السحرية) من أبواب البيوت إلى شرفات القلوب، وتحولت نظرات الترحاب التى كانت إلى نظرات شك وقلق وارتياب فى كل شيء وأى شيء، اندثرت من قاموس المفردات المصرية عبارات الود القديم من نوعية (أهلا وسهلاً)، ليحل محلها تعابير معلبة خالية من المشاعر وخاوية من هوية قديمة أصيلة. حين نرمى أبصار عقولنا إلى مكونات صورة الواقع العالمي، نكتشف تفاصيل لعصر سريع يفرض إيقاعه النظام العالمي، مستهدفاً الوصول الأسرع صوب محطة (عالم جديد تتلاشى فيه دول وأنظمة، وتظهر دول جديدة وتحالفات غير متوقعة) هكذا صرح وزير الخارجية السابق (جون كيري) فى أكثر من محفل قبل أن يغادر موقعه. غير أن الاكتشاف الأكثر وجعاً، ذاك الذى يصدم إنسانيتنا، والذى يشير إلى إن (العالم الجديد) المستهدف لا يضع أى معايير للإنسان ولا يصنفه إلا فى خانة الاستخدام، باعتباره فى مجمله مجرد مجموعة من التروس فى ماكينة عالمية يجب أن تعمل لمصلحة الكبار الأقوياء الأثرياء الذين لهم وحدهم حق الحياة كأسياد أو عالم أول بينما من سواهم عبيد أو عالم ثالث. ونستيقظ من سبات مفروض، على أشلاء الإنسانية تتناثر دماءً وأوطانا، بينما يبتسم أسياد العالم الجديد المرتقب، ويشربون نخوبهم وهم يطالبوننا بألا ننزعج، فما نعاينه ليس سوى (دماء المخاض للعالم الجديد)، ليكون الخيار إما ترقب ذات المصير أو المقاومة انتصاراً للإنسان الذى كُنَّاه. وبحكم التاريخ الضارب عمقاً فى الوعى الإنساني، تبقى مصر وأهلها فى مركز الخطر استهدافاً وعلى رأس المسئولية مقاومة، وبحتمية الهم وواجب الأمانة، يمسى المفوض بالإدارة فى هذا الوطن معنياً باستنهاض كل طاقات الإنسان المصرى الأصيلة ليغدو قادرا على النهوض مقاومة وبناءً، باعتبار ذلك واجباً وطنياً وفرضاً إنسانياً، وإيماناً بأن الإنسان (المواطن) حين يسترد ما انسحق من إنسانيته بفعل الاستبداد، ويستعيد ما اندثر من قِيَمِه بفعل الإفساد، سيكون قادراً على كل أصناف الفعل المؤهل لاسترداد عز الأوطان، وحيث إن ما لا يتأتى الواجب إلا به فهو واجب، يصير السعى لاستعادة قيمة (الحب) فى المجتمع المصرى واجباً قومياً وفرضاً إنسانياً. وبغير اندهاش من رومانسية الطرح، يمكن ببساطة مشاهدة بعض تفاصيل مشهد الواقع من زوايا أخري، أولها الفعل التدريجى السالب لكل معانى الانتماء للوطن -العام-، والمنحاز للأنا -الخاص- وصولاً لشيوع قاعدة (أنا ومن بعدى الطوفان)، والتى فرضت نفسها تدريجيا منذ زمن الانفتاح حتى انتهاء عصر مبارك الذى رحل بينما عموم الناس يرفعون لافتة (البلد بلدهم). أما الزاوية الثانية فنشاهد منها ملامح التصنيف المفتت التى حالت دون تفعيل حالة التوحد حول راية المحبة الوطنية فى 25 يناير 2011، وراحت تقسم المجتمع إلى (ثورى -فلول - حزب كنبة) ثم تسارع فعلها ليقسم الصنف الواحد إلى أصناف ثواراً إسلاميين وعلمانيين ويساريين ثم مؤيدى المشروع الإسلامى وأعداء له، حتى كانت 30 يونيو ليتوحد الشعب من جديد وليفرض الواقع على الإدارة تحديدات جديدة تصرف أنظار أولى الأمر عن حتمية البناء على هذا التوحد، الأمر الذى وسع دوائر التفتيت الإنسانى بفعل الاستهداف التنظيمى الإخوانى وغيرها من تنظيمات الدين السياسى المدعومة بماكينة عالمية، وبأفعال المصالح الذاتية - شخصية وحزبية وإعلامية-، حتى غدا الوعى المصرى فى مرمى نيران كراهية تبثها فضائيات الإخوان، وكراهية تبثها فضائيات الإعلام المصرى الخاص، وصولاً لتحول الزعيق إلى أسلوب حياة فى (التوك شو) ويغدو انقضاض أحد الضيوف على الآخر بالكرسى أو الحذاء هو ذروة السخونة الإعلامية، فى حين يتحول البطل الفنى إلى (عبده موته) الذى يواجه الواقع وتحدياته بأدوات إنسان ما قبل التاريخ. إن توصيف الواقع يشير إلى إن الفُرقَة قد غدت داء فى أوصال الأمة يسري، والقسوة أصبجت جرثومة ناقلة لعدوى التفتيت، والكُرْه صار وباء يتفشى فى بدن المجتمعات، وهو ما يوجب على كل مكونات الوطن فعل إنقاذ عاجل يتجاوز حدود الكلمات التى تدغدغ المشاعر إلى استراتيجية بناء عامة وشاملة تُعمل المصالحة فعلاً ينطلق من الحب للذات إلى طاقة تواصل بناءه تعيد اللحمة للمجتمع وتسترد دفئه القديم الذى طالته برودة عقود فسدت وأفسدت، إنها استراتيجية البناء بالحب التى غُيبت بقصد، وباتت عودتها فريضة تحتمها إرادة البقاء، فى وطن خالد شاء من شاء وأبى من أبى. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;