تماما كما العلاقة بين «جحا» والكمبيوتر، تبدو العلاقة بين كاتب هذه السطور وكرة القدم خاصة والرياضة عامة باستثناء المشي، لكن الواقع الرياضى الذى فرض نفسه على وطننا بكل مكوناته، خلال فعاليات بطولة كأس الأمم الإفريقية، يخرج عن إطار كونه حدثاً رياضياً، ليتعدى ذلك إلى دوائر أوسع فى القلب منها حالة الظمأ الوطنى لرشفة انتصار تروى المصرى المتطلع إلى أن يرفرف العلم فرحة بالتحقق. وحين نتتبع الحالة المصرية منذ 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2013م، نكتشف أن عامل التوحد المصرى خلال فعاليات ثورة الوطن بجولتيها، كان تلبية نداء (هدم) ما فسد استبداداً، أملاً فى (بناء) لم يملك أى من أطراف الفعل طرح مشروع له. كان الوجع قبيل 25 يناير 2011 هو دافع من خرج ثائراً متجرداً، وكان الخوف قبيل 30 يونيو 2013 هو محرك من خرج ثائراً متجرداً، وتشهد ميادين الثورة فى الجولتين على قطاعات عريضة من الشعب خرجت فى أعقاب الثوار لترفع العلم المصرى مع هتافها دونما دافع سوى أن تشارك فى حالة فرحة عامة بقادم مجهول الملامح. وبعد سنوات ست مرت على انطلاق جولة الثورة الأولي، يغدو العطش للفرحة أكثر إلحاحاً لدى جيل الأجداد والآباء من أبناء مصر الأم، إنه الإلحاح الذى يفرضه عمق الإحساس بالوطن المأزوم، وضغوط المخاوف على ارتباط الأجيال الجديدة أبناءً وأحفاداً بالوطن الأم، وهم من خرجوا من أرحام الوطن إلى واقع تحاصر أحلامه أوجاع عقود من الفساد والإفساد، وتحديات واقع من التربص العالمى بالمستقبل. ويجسد هذه الحالة «جدة» مصرية صاحبت ابنتها وأحفادها إلى مقاهى وسط القاهرة لتشهد مباراة النهائى بين الجموع التى احتشدت فى المقاهي، جلست الجدة إلى جوار شاشة العرض بحيث صار ظهرها إلى الشاشة ووجهها نحو الجمهور المحتشد، كان موقعها منصة تتطلع فى وجوه الحضور المحتشدة أمام الشاشة الخاصة بالمقهى الذى فيه تجلس ويمتد ليشمل نظرها جموع المحتشدين فى المقهى المقابل، ولأسباب صحية تدعوها لرفع قدميها أحضر الأحفاد حجرا كبيرا لجدتهم لتجلس مرتاحة، بينما يدها لا تتوقف عن التلويح بعلم مصرى صغير، ومع انطلاق أحداث المباراة كانت قسمات وجهها تفرش ابتسامة واسعة يزداد اتساعها كلما ازداد حماس الجموع المحتشدة أو ارتفع هتافها باسم (مصر)، توزع الجدة ابتساماتها على الجميع حتى المارة وتلوح لهم بالعلم وتترغرغ عيناها بدمعات فرحة طال غيابها، وحين انتهت المباراة بخسارة المنتخب المصرى احتضنت الجدة الصغار الذين كانوا يبكون وهى تبتسم مانعة دموعها من التجاوب معهم، ثم نظرت فى وجه أصغرهم قائلة (المهم إنكم جربتم تفرحوا ببلدكم)، وساعد الأحفاد جدتهم لتتحرك ببطء على عكازها الثلاثى الأقدام، كانت خطواتها الثقيلة راضية بماحصلت عليه من إبرة الفرحة فى أكوام قش الوجع الذى يثقل كاهل النفوس المصرية. وهكذا يخرجنا واقع بطولة رياضية إلى محاولة وضع ملامح لأحد محاور المشروع الوطنى الشامل لبناء الوطن المصرى فى عصر الجمهورية الجديدة، وهو المشروع الذى لا غنى عنه لتطوير التحرك الوطنى صوب المستقبل، ليتجاوز تحدى البناء كل جسارة المفوض بالإدارة فى مواجهة التحديات، إلى جدارة تفعيل الطاقات أملاً فى تفعيل هياكل مكونات الوطن وفك قيودها المزمنة. لقد عاش المجتمع المصرى عقوداً طويلة ساد فيها اختصار الوطن فى شخوص الحكام، وتأممت فيها الفرحة لمصلحة فواتير الكد سعياً، والانسحاق أسلوب حياة، حتى طغى إحساس جمعى بإدمان الأوجاع، الأمر الذى خلف خوفاً من مجرد الفرحة، واختصره الوعى الشعبى فى عبارة (اللهم اجعله خير) كلما ضبط جمع مصرى نفسه متلبساً بفعل الضحك! ولقد أثبتت مكونات المجتمع المصرى قدرتها على التوحد عطاءً حين قدمت المليارات لأول مشاريع دولة 30 يونيو (قناة السويس الجديدة)، كما تثبت قدرتها على التوحد وجعاً كلما قدمت ابناً لها شهيداً على ثغور الوطن فى حرب الإرهاب الذى يتربص بنا، وتثبت يوماً بعد يوم قدرتها على التوحد صبراً فى حرب الوجود التى تفرض تحدياتها غلاءً يتسارع إيقاع وجعه بفعل غباء التآمر والطمع وانعدام جدارة الإدارة. إذن نحن أمام شعب قادر على التوحد رغم كل مؤامرات الإرباك والإنهاك والإفشال إخوانية الأدوات وعالمية التوجيه، وأمام مفوض بالإدارة قادر على توجيه الطاقات رغم كل أزمات النسيج الإدارى وأدرانه المتكلسة فى بدنه، وأمام ميادين وطنية قادرة على أن تجمع أصنافاً من الإنجازات لتكون ميادين توحد الشعب دعماً وتشجيعاً. يبقى أن يؤمن النظام المصرى بحاجة المجتمع إلى مشروع بناء شامل، تكون الفرحة هى إحدى مستهدفاته، ويكون الإعلام هو نافذتها التسويقية، التى تؤمن بالفرحة أداة بناء لا وسيلة تخدير، ويكون الخطاب الدينى هو الباعث الروحى للفرحة يقيناً بالأمل فى رب وعد مصر بالأمن والأمان، ويكون النشاط المتنوع لمكونات الوطن هو زاد المسير نحو البناء المستهدف. إن كل من يستهدف هذا الوطن، وتنظيم الإخوان فى القلب منهم، يؤمنون بأن إشاعة اليأس والإحباط معول أساسى من معاول إسقاط الوطن، وبالتالى تتابع الضغوط على النفس المصرية لتثقلها أكوام من قش الأحزان المنهزمة والمنسحقة والبائسة، ودور المفوض بالإدارة أن يصل تحت هذا الركام إلى إبرة فرحة، ومن واجبات المرحلة استخراجها لتلمع على كل ثغر مصرى، وبالتأكيد شعبنا يستحق بعضاً من الفرحة. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;