الحشود «حجيج» على أعتاب الرحمن تقيم في الأرض المقدسة «مكة»، شرعت القلوب رايات قربى تنخر عُباب بحر الحياة الهادر، مدوية بدعاء واحد متجرد من كل خلاف واختلاف، (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). والحشود «مواطنون» على أعتاب الوطن القادم تقف، شرعت القلوب رايات أمل تتحدى عواتي الريح التي تضرب كل أمل في عودة «مصر التي في خاطري وفي دمي»، وتسعى لخلخلة إيمان المصري بوطنه الضارب في التاريخ قِدماً وحضارة. مسافة تصل ما بين حشود الحجيج المؤمنة بقدسية البيت العتيق، والحشود المصرية المؤمنة بقدسية الوطن والمؤملة في أن يسترد عافيته، جمهورية جديدة قوية قادرة وآمنة، والمشترك إيمان بمقدس وأمل في أن يعلو للبناء قواعد. نبي الله إبراهيم قبل آلاف السنين من عمر الإنسان على الأرض، كان المسئول المكلف من قبل الله بإعادة البناء إلى أصله، وأصح الأقوال تشير إلى إن بناء الكعبة تم قبل تكليف إبراهيم الرسول -عليه وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام-، والاختلاف محصور في كون أول البناة كان أبا البشر آدم أو الملائكة، لكن الأصل هو (قِدَمْ الكعبة) حتى طمث الطوفان معالمها، وحين بلغ التكليف إبراهيم عليه السلام شرع في مباشرته متحملاً المسئولية الشخصية، ومشرِكاً المتاح من مواطني عصره (ولده إسماعيل)، وراح فريق البناء يشرع فيه مستنفداً كل أسبابه البشرية، ليكون بعدها الدعم الإلهي، «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ». وبعد آلاف السنين من عمر البناء الثاني للكعبة، وعلى أعتاب بناء جديد يستهدفه كل مؤمن بهذا الوطن القديم «مصر»، يصير فرضاً إعمال النظر في تراث الإنسانية الإسلامي، أملاً في الوقوف على آليات جديدة تستنهض الهمم الوطنية نحو (رفع القواعد من الوطن)، ولا يخفى على صاحب عين أن مصر قديمة البناء، متجذرة الحضارة، راسخة الحضور في تاريخ الإنسانية، كان ذلك حتى طمس طوفان عقود الفساد والإفساد معالم بنيانها، وأركان قوتها، ومكامن حضارتها، فهان الوطن بهوانه على أهله، وترجم الوعي الشعبي عدم الانتماء شعاراً تتناقله ألسنة العامة (البلد بلدهم)، والضمير هنا عائد تارةً على رجال الحكم، وثانية على أرباب المال والأعمال، وثالثة على أباطرة الإعلام والفنون، وأخرى على ممثلي السلطة أياً ما كان نوعها (دينية، اجتماعية، إدارية) إلى آخرها من وكالات السيطرة والإخضاع. طمست معالم «الكعبة» حتى رفع الرسول إبراهيم قواعدها، وطمست معالم «مصر» التي كانت وصار على الواقع أن يفرز بتكليف اللحظة الوطنية الفارقة (من يرفع القواعد من الوطن)، وحال التخلف عن التصدر لهذه المهمة الوطنية المقدسة فإن قواعد الاستبدال الثابتة على (المفرطين) تكون حتمية. وبالتالي فلا سبيل أمام كل متصدر لمشهد (رفع القواعد من الوطن) إلا بالسير صوب البناء متحلياً بما تحلى به نبي الله إبراهيم ومعاونه إسماعيل من صفات خمس راسخات ولازمات للمهمة، أولاها (الإيمان بقدسية المهمة)، فلا أقدس من حماية الحمى مقابل مخططات الإسقاط، ولا أنبل من الإيمان بوطن بينما الأوطان من حوله تجتاحها مواجات الكفر بقدرتها على حماية أبسط حقوق الإنسان في الحياة. وثاني صفات المتصدر لرفع قواعد الوطن، يتجسد في تحسسه لفريقه الداعم، وحسن اختياره لمعاوني الكشف والبناء حتى يضمن وضوح الرؤية في وعي قافلة البناء عقيدة وفكرة، ويطمئن لتكامل الفريق خبرة وحرفة، و يتحرى طهارة السلوك في جيشه يداً وتبعية. أما ثالث صفات المتصدر لرفع قواعد الوطن فتنبع من امتلاك أدوات التَنَبُه بما يؤهله للوصول إلى قواعد البناء الذي كان يوم كانت مصر سيدة تمنح لمواطنيها السيادة وتزرع في وعي الدنيا يقين الإيمان بها مهداً للحضارة وقبلة للإنسان، وبالتالي يكون الوقوف على مكامن القوة في مصر التي كانت هو الدليل لاستنهاض العزائم الحاضرة بناءً للجمهورية القادمة أملاً. ثم يكون على المتصدر لرفع قواعد الوطن أن يمتلك أسباب البناء الذاتية، وبالتأكيد خدرت عقود الفساد والإفساد الإيمان بالوطن، وأسكرت بتعاقبها على الوعي يقين المواطن بقدرته على أن يكون شريكاً في البناء، ولكن أولي العزم من المتصدرين لبناء الأوطان في مثل زماننا، عليهم أن يتحلوا بصحيح العزم حتى يهديهم إلى فاعل الوسيلة، وصائب الحيلة. و أخيراً يقف إبراهيم الرسول ومعه مساعده الوحيد إسماعيل ليتما مهمة بناء المقدس التي كلفهما بها رب البرية، ورغم إيمانهما بقدسيتها تلهج ألسنتهما بالدعاء {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، إنه تجرد كل من يتصدر للبناء حين يكون التصدر لله خالصاً، وفي واقعنا يصبح التجرد فريضة المتصدر، فلا وجاهة في تصدر مشهد الوطن المستهدف، ولا طموحا شخصيا أو وظيفيا أو ماديا في موقع صدارة على منصة استهداف. ولا عذرا لمن يتصدر حين لا ينقي صفه من هكذا أمراض توشك أن تفتك بمشروع البناء، وأن تقوض الحلم في الجمهورية الجديدة. إنهم (القواعد) المعطلون عن المسير والمعوقون على درب التشييد.. وإقصاؤهم واجب حتى تأخذ (قواعد الوطن) سبيلها نحو الجمهورية الجديدة. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى