يحتفل عالمنا اليوم بعيد الحب فى تقليد يعتبره بعض العقلاء خرافة، ويتصوره أغلب المتدينين ميوعة لا تستقيم وجادة الحياة. والحق أن الحب كعاطفة بشرية يكاد يمثل فيزياء كونية، تتجاوز كثيرا مشاعر العشق بين رجل وامرأة إلى كونه لاصقا روحيا، ينطوى على جل المشاعر السامية. بل إن الإيمان الدينى نفسه ليس إلا تنويعة على لحن تلك العاطفة الكونية. فالكائن الإنسانى لا يعدو أن يكون عضوا فى الملكوت الإلهي، وغايته الأساسية هى العمران، الذى لا يتحقق إلا بالأخوة البشرية. وكما أن الله مطلق اعتقادي، فإن الأخوة الإنسانية مطلق أخلاقي، ومن ثم فإن من يؤمن بالله حقا لابد وأن يحب الإنسان فعلا، ومن يتنكر للإنسان فعلا إنما يتنكر لله حقا. الأمر هنا يشبه قضية رياضية، يمكن إخضاعها لمنطق الحركة الدائرية على المحورين/ الإحداثيين: الرأسى الذى يمثل الله ذروة ارتفاعه، والأفقى الذى يمثل الإنسان ذروة امتداده. الإحداثى الرأسى (ص) يعكس العلاقة بين الله والإنسان، على قاعدة الضمير الذى يربط العبد بالرب بأواصر الإيمان والعبادة من جهة، وملكات العناية والرحمة من جهة أخري، وهى علاقة تبلغ من الصدق والحرية مبلغا لا يداني، ترسم معالمه النصوص التأسيسية فى الشرائع التوحيدية، كما يمكن اكتشافها فى الكمال الإلهى نفسه، فلا كمال دون رحمة وغفران، ولذا كانتا من صفات الله وأسمائه الحسنى. أما الإحداثى الأفقى (س) فيعكس العلاقة بين الإنسان والإنسان، تجسيدا لعهد الاستخلاف، الذى يتجلى قرآنيا فى الخطاب الإلهى إلى عموم البشر (الناس) فيما يخاطب المؤمنين به باعتبارهم (المسلمين). ولأن غاية العهد هى العمران وما يعنيه من تمدين وتقدم، فلم يكن ليتأسس إلا على أخوة بشرية كاملة، فمن غير المعقول أن يقوم البعض بمهمة العمران، وأن يتفرغ البعض الآخر للعدوان عليه وإزالة ما يقيمه من قواعد أو يرسخه من أصول. ومن ثم كانت المحبة هى الصمغ الضرورى للعلاقة بين البشر، بغض النظر عن نوع الإيمان أو وجوده من الأصل، ومن يرفض الأخوة البشرية إنما يندرج فى سياقين لا ثالث لهما: فإما أن يكون عبثيا، وإما أنه يتصور الإرادة الإلهية عبثية، تطلب العمران، ولا ترسخ قيمه. ولأن العبث يمثل نقصا ينال من الكمال الإلهي، يمكن اعتبار الحب أمرا إلهيا، وكل نص دينى يقول عكس ذلك إما أنه موضوع أو محرف ، أو خضع لتأويل سلبي. فى هذا السياق تتجلى العلاقة التى نرمى إلى تأسيسها بين الله والإنسان، حيث يخضع الإحداثى الصادى للإحداثى السيني، فكل سلوك إنسانى يؤلم الآخرين أو يهدر العمران، لا يمكن أن يصدر عن أمر الله، لأنه شر أخلاقى والله لا يأمر بشر قط، بل هو نتاج الضعف الإنساني. وقد يقبل الله ضعف الإنسان على أنه نقص وشر، يمكن تجاوزه بالاستقامة من جديد، بعد توبة واجبة، تبقيه مجرد انحناء عرضى فى مسيرته على الطريق القويم. أما الإحداثى السينى فلا يخضع للصادي، حيث يقرر الله فى الإسلام حرمات خمسا مطلقة زالنفس والمال والعرض والذرية والدينس لا يجوز لأحد النيل منها بأى ذريعة أو مسمي. بل إن الروح القرآنى والتعليم النبوى الرائق يفصحان عن ذلك بجلاء فالله يغفر بإطلاق كل خطايا العبد فى ذاته العلية، عدا الشرك به، مهما عظمت أو تكررت، ولكنه لا يغفر ما يقترفه الإنسان من خطايا فى حق آخر، إلا إذا سامحه الإنسان المغدور، كما إنه لا يطلب من أحد عقاب أحد على الشرك به، فهذا شأن خاص به. وهكذا يقيد الله غفرانه بتسامح الإنسان لأنه يعلم بحكمته كم تنال خطايا الإنسان من الآخرين وتؤلمهم وهم الضعفاء. أما هو جل شأنه فيملك القوة والجبروت، لا يتألم من شئ، بل يستطيع جبر الإنسان على طاعته، أن يحيله ملاكا يسبح بحمده، ولكنه أراد له أن يبقى إنسانا، مريدا وإن كان خطاء، مختارا وإن كان ضالا، يسعى إلى الله بروح المحبة لا قوة الإرغام. فى هذا السياق نستطيع أن نصك معيارا لفرز الدين الصحيح من الزائف، فكل اعتقاد يدعو إلى العمران، ويقول بمحبة الإنسان، يضع العناية بالشر والشفقة عليهم فى عين قلبه، هو اعتقاد صحيح وعكس ذلك ليس إلا زيفا. ففى الدين التوحيدي، كما الروح القرآني، يبقى عهد الاستخلاف ضامنا أخلاقيا لإخوة البشر، ولو خرج بعضهم عن حدود الإيمان. كما يمكن اعتماد المعيار نفسه لفرز التدين الصحيح من الزائف؛ فكل تعليم يدعو إلى تحرير الإنسان من سطوة الآخرين يبقى صادقا، وكل تعليم يخضعه لهم ليس إلا زيفا، حيث العلاقة طردية بين عمق الخضوع لله وحدود الخضوع لغيره، فالمؤمن الحق يخضع بكل جوانحه لله، ويتأبى على كل خضوع للبشر، مستلهما قوته من نبع الجبروت الإلهي، لمواجهة كل أشكال الجبروت البشري، مقاوما كل تسلط إنسانى قد يصادفه على الخط الأفقى بما يملكه من طاقة تحرر جواني، يستلهمها من المحور الرأسي، مستعينا بالسماء لمواجهة تحديات الأرض، وكل فقيه يدعوه إلى غير ذلك إنما يسعى إلى قهره باسم الله، لصالح سلطة يمثلها، الأمر الذى يجعل كل أشكال التدين الجامد أو العنيف باطلة، إذ تهدر المحبة الكونية كما الحرية الإنسانية على مذبح الكهانة الدينية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;