كمثل( بيض) شم النسيم, بدأ موسم التلون, وهو لفظ عبقري مشتق اشتقاقا من التلوين, وإن حمل معني آخر, فمنه إيحاء بالألوان علي اختلافها, ومنه تلميح بتغير النفوس, أو قل الإيحاء بتغيرها كنتاج لتغير الواقع المحيط بهذه النفوس فجأة, أو قل محاولة ركوب الموجة الجديدة بأي طريقة وبأي ثمن, أو قل محاولة الإيحاء بعكس ما كان المرء يؤمن به, وبمنتهي البجاحة التي يحسد صاحبها عليها البجاحة!! ولأن الإعلام هو أسرع مرآة تعكس ما يدور في مجتمعها, أو قل أسرع مرآة تظهر عليها الألوان, فإنه لا يخفي علي عاقل أن مرآة الإعلام عندنا, مقروء, أو مرئي, أو مسموع, سرعان ما تلطخت بالألوان, ما إن تم الإعلان عن اسم الرئيس الجديد!! وربما يقول قائل إن هذا التلون هو نوع من السلوك الديمقراطي الصحي الذي يقبل الآخر; وإن في ذلك قمة المرونة النفسية, ولكنني أزعم أن تكرار هذا السلوك في خلال فترة زمنية(وجيزة), وكثرة التنقل خلالها بين منتهي الشيء ومنتهي نقيضه, لهو دلالة دامغة واضحة علي إدمان التلون!! فهؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا المقربين من نظام مبارك, ولكم أمطرونا بقفزاتهم الواثقة التي لا يأتيها الباطل أبدا في بستان النظام البائد; ولكم كانوا أدوات فاعلة بعلاقاتهم اللصيقة بأركان هذا النظام, إلي الدرجة التي جعلت( البعض) منهم مشاركا في( التخطيط الإعلامي) لما يجول في أعماق نفوس ذلك النظام وأركان ذلك النظام( بالصوت والصورة)!! اندلعت شرارة الثورة في كل أرجاء البلاد, فارتسمت ضحكة خبيثة علي شفاة هؤلاء, وسرعان ما وجدناهم يؤيدون الشباب تدريجيا في ثورتهم ويتغامزون ويتلامزون علي النظام الذي أكلوا وشربوا و( تكسبوا) علي موائده وكان( سقفهم) المهيب الذي يتطلعون مع كل نفس من أنفاسهم من اجل إرضائه, فإذا بالشباب معهم كل الحق( فجأة), وإذا بالخط الذي يتبناه هؤلاء المتلونون ينحرف( تدريجيا) عن مساره, رويدا رويدا إلي أن تفرطح فأصبح من المستحيل أن يستقيم مع ما كانوا يبشرون به لسنوات وسنوات, فأوحوا للناس, أو هكذا ظنوا, أنهم كانوا من دعاة التغيير, ولم يكونوا في ذات يوم يروجون لعكس ذلك تماما, ويختصهم النظام بأهم أسراره, بل ويزكيهم في الاختيار لاستضافة( أعز الناس)!! تراشق الثوار مع المجلس العسكري في صولات وجولات, فإذا بالمتلونين وقد أسقط في أيديهم: تري هل ينحازون إلي الثوار كما زعموا, أم يتخذون منحي المجلس العسكري ؟ فبرغم أن هذا في بعض المراحل قد أصبح نقيض ذاك, وذاك أصبح نقيض هذا, إلا أن أصحابنا رقصوا علي الحبلين ببراعة; فهم مع هذا وضده, وهم مع ذاك وضده في نفس الوقت( إزاي ؟ الله أعلم!!). انتهت الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية بسلام, فخرج من خرج, ولم يتبق سوي اثنين هما وبالمصادفة نقيضان في الفكر والرؤية لا يجتمعان أبدا بأي حال من الأحوال, فضاق الخناق علي أصحابنا; فما عادوا قادرين علي الرقص بنفس البراعة, ولكن مظهرهم وسلوكياتهم وانطباعات الناس( كل الناس) عنهم توحي بما لا يدع مجالا للشك( بأن أغلبهم) كان مع شفيق وليس مع مرسي, وظل الرقص علي حاله, إلا أن تبدت ملامح حملة إعلامية ضارية تجاه مرسي ومن معه, بالتشويه وإلصاق التهم جزافا والاتهام بالخبث والعمالة وكل ما قال زيد في الخمر أو يزيد قليلا, فتنفس أصحابنا الصعداء وشمروا عن ساعدهم وتصوروا أنهم قاب قوسين أو أدني ممن راهنوا عليه, وأن البشائر كلها والاستعدادات توحي بأن شفيق قادم لا محالة, وأنه ما هي إلا ساعات حتي يتسني لهؤلاء أن يكشفوا عن حقيقة ما في أنفسهم بعد طول رقص وتعب!! خرج علينا المستشار فاروق سلطان رئيس المحكمة الدستورية العليا ورئيس اللجنة العليا للانتخابات بخطبته الشهيرة, والجميع يحبس أنفاسه في انتظار إعلان الفائز, فما هي إلا وريقات حتي أعلن الرجل فوز من لم يحسبوا له حسبانا بالمرة, وهنا أتوقف مليا واستوقفك معي لنرصد معا حجم القدرة الهائلة التي يمتلكها هؤلاء, ليس فقط علي التلون, وإنما علي سرعة التلون.. وعلي الهواء مباشرة وبوجه مكشوف: ابتسامات صفراء, وعيون حائرة, وحسابات أسرع من الصوت في العقول تكشفها حدقات العيون, تستعيد من الماضي قدر المستطاع كل ذكريات التلون, والرقص علي كل الحبال, والذاكرة بالطبع لا تستطيع أن تسعف صاحبها بسهولة, خاصة عندما تكون الأحبال كثيرة وكذا الرقصات, فماذا عساي قد قلت قبل ذلك, وبماذا عساي قد ألمحت ؟ إنها بحق مفاجأة المفاجآت, فيا ليتني كنت ترابا!! ولكن الشيء الوحيد الذي يملكه هؤلاء باقتدار هو قدرتهم علي فعل أي شيء والتفوه بأي شيء يضمن لهم مكاسبهم التي اقتنصوها في غفلة من الزمان, فإذا بماكينة التلون تتحرك بكامل طاقتها تسابق عقارب الزمن إلي الدرجة التي تجعلني أتوقع( قريبا) ارتداءهم الحجاب مثلا أو إطلاق اللحية كأسهل وأبرز إعلان عن إتمام التلون!! نهايته.. إن الإعلام في رأيي هو أكبر محرقة يمكن أن يحترق فيها الإنسان ما إن تزل قدمه; فكل ما يكتبه المرء أو يبثه علي الناس محفوظ في ذاكرة( النت) وذاكرة العقل الجمعي للناس, وهذا أخطر نوع من أنواع الذاكرة; ذلك لأنها من المستحيل أن تنمحي, اللهم إلا إذا مات الناس جميعا دفعة واحدة, وهذا أمر محال!! يبدو أن الثورة المصرية التي استطاعت أن تطيح بمبارك ونظامه أبدا لن تستطيع أن تطيح بالمتلونين, فلقد ثبت بالدليل القاطع أن المتلونين أقوي من أي نظام!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم