لاشك أن ثمة فشلا واضحا في بعض المكونات الثقافية والدينية والتعليمية, هو الذى أسهم فى رسم حالة التطرف التى تطول فئات المجتمع, وفى المقدمة منها شريحة الشباب, وعلى الرغم من الجهود التى بذلت . وما زالت تبذل على صعيد محاربة التطرف, إلا أنها لم تمتلك بعد القدرة على تقديم البديل, الذى من شأنه أن يعيد هذه الفئات إلى مربع الاعتدال والوسطية والتوازن ,ليس على المستوى الدينى فحسب, وإنما على كل مستويات الواقع. وفى هذا الحوار مع الدكتور صابر عبد الدايم العميد السابق لكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر فرع الزقازيق، وصاحب المؤلفات المتنوعة فى الفكر الإسلامي والثقافة بأشكالها المختلفة, فضلا عن كونه ناقدا وشاعرا يتحدث لصفحة »الفكر الدينى« بصراحة وشفافية ومنهجية علمية عن الأسباب والمسببات, ويحدد ما يمكن وصفه بخارطة الطريق للخروج من مأزق التطرف, عبر خطوات عملية تحتاج فقط إلى متابعة من قبل الوزارات والمؤسسات المعنية بقضية التطرف.. والى نص الحوار: هل فشلت الثقافة العربية فى الحيلولة دون تفاقم ظاهرة التطرف الدينى؟ وما الأسباب التى أدت إلى ذلك؟ إن الثقافة بصفة عامة, هى المكونات الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية, والتى تشترك فى إظهار معالم الشخصية حسب تطور مراحلها, وحينما ننظر إلى ثقافتنا المعاصرة فى مصر والعالم العربى نجد أنها »جزر منعزلة », ويمكن أن تسمى فى بعض توجهاتها بثقافة النخبة التى لم تلتئم بالتيارات الاجتماعية المتغيرة, بينما سكن الفكر برجه العاجى حسب الانتماءات الأيدلوجية المتنوعة, ولم يبق أمام الشباب إلا بعض الأفكار المنقوصة المغلوطة الواردة إليه, من فكر مذهبى مقيد بزمنه وبيئته مثل الفكر السلفى وغيره من أفكار التشدد أو التعصب, وهذا ما لجأ إليه بعض الشباب الذين لم يجدوا متعتهم العقلية, ولا غذاءهم الروحى الحياتى فيما حولهم من حراك ثقافى بعضه مستورد, وبعضه متمرد على ثقافتنا الدينية الصافية النابعة من القرآن والسنة, وإلى جوار هذا الجو الملبد بالثقافة الرافضة للفكر الوسطى المعتدل, وجدنا كثيرا من الزوايا الضيقة التى تنشر كثيرا من الأفكار المتشددة التى تتمثل خطورتها فى غرس العداء للوطن, وبأن هذا الوطن فى نظر هؤلاء أصبح خارجا عن العقيدة الصحيحة فى نظرهم, وقد أنتج هذا الجو الخانق ما نشهده الآن من صراعات سياسية واجتماعية أدت إلى حمل السلاح, والى أن صار الإخوة أعداء فى الوطن الواحد, مثلما هو الحال فى سوريا وليبيا واليمن والعراق, ومصر رغم كل ما تشهده إلا أنها ستبقى آمنة من ذلك,بفضل وجود الأزهر والعلماء المستنيرين, الذين لا ينغلقون فى دائرة مذهبية واحدة, ولكنهم يستضيئون بآراء الأئمة المجتهدين, ثم يجتهدون فتكون لهم آراؤهم التى تنبع من سماحة الإسلام ويسره, لأنه كما فى الحديث الشريف الذى رواه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم : »إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَه«. تجنب دوائر التطرف فى ضوء هذه المعطيات.. إلى أى مدى يمكن لكل من الثقافة والفكر أن يسهما فى تجنيب الشباب الانخراط فى دوائر التطرف والإرهاب؟ وفق رؤيتى, فإن الطريق إلى الاتزان والاعتدال فى الآراء والسلوك, يتمثل فى جملة من الخطوات التى يمكن إيجازها فيما يلى، أولا: أهمية أن يعنى الإعلام بكل وسائطه المرئية بالأحكام الفقهية الميسرة, وأن يستضيف كبار العلماء المستنيرين, ليوضحوا للشباب كل الشبهات التى تدور فى أذهانهم وتؤدى بهم الى التطرف. ثانيا: أن تهتم وزارة الشباب والرياضة بعقد الندوات الدينية والاجتماعية والفكرية, التى تعرض النماذج الصحيحة فى الفكر الإسلامي قديما وحديثا, من خلال برامج متوازنة مستمرة دون أن ترتبط بالمناسبات الدينية فقط . ثالثا: ضرورة اهتمام وزارة الأوقاف والأزهر وجامعته, بتثقيف الأئمة والخطباء ثقافة اجتماعية ونفسية ودينية متحضرة, وأن يدرس لهم ما نسميه علم المقارنة بين الأديان وأيضا بعض الملل والنحل الوضعية, لأن بعض هؤلاء يهاجمون علنا على المنابر أهل الكتاب (المسيحيين واليهود), بل ومنهم من يمنع تهنئتهم بأعيادهم الدينية ويرونها حراما ومنهم من يفتى بأنهم كفار, وهذا من شأنه أن يثير الفتنة بين أبناء الوطن الواحد. رابعا: أن تهتم وزارة التربية والتعليم بمنهج التربية الدينية الإسلامية والمسيحية, بحيث يكون مادة أساسية لها الأهمية التى تحظى بها مواد أخرى, وأن تضاف إلى درجات المجموع فى كل مراحل التعليم. خامسا: هناك من يقول بوضع مادة الأخلاق بدلا من التربية الدينية, وأقول لهؤلاء: لا مانع من إعداد كتاب حول معايير الأخلاق أسوة باليابان وغيرها من الدول, أما كتاب التربية الدينية فهو يعرف الطفل أو الطالب بأصول دينه وأحكام عقيدته, وبالتالى فإنه ليس ثمة تعارض بين الدعوة إلى كتاب أخلاق والتمسك بالتربية الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية. سادسا: أن تعيد وزارة الثقافة النظر فى سياستها ومطبوعاتها, لأن الثقافة عندنا اتخذت مفهوما معاكسا لهوية الأمة فى بعض اتجاهاتها ورفع بعضهم شعار حرية الفكر, ولكن الحرية الفكرية لا تمنح المثقف أو المفكر حرية تشويه التراث الإسلامي والتراث الدينى بصفة عامة, فالثقافة الصحيحة نابعة من احترام عقيدة الملايين من أبناء هذه الأمة, ومراعاة شعورهم واحترام الأئمة الكبار فى كل عصر, وهناك قصور ثقافة منتشرة بالمئات فى المحافظات, لكنها لا تهتم بالتربية الفكرية الدينية قدر اهتمامها بالأنشطة الأخرى التى فقدت بريقها وهى قصور - كما قال الأديب الراحل ثروت أباظة - هى«قصور فى الثقافة », والأمل أن هذه القصور تستضيف كبار المفكرين ورجال الدعوة الإسلامية, فى كل أٍسبوع وليس فقط فى المناسبات الدينية المتباعدة, حتى تربط الشباب بهذا الفكر الوسطى المعتدل والمستنير ويتمكن من أن يفهم القضايا الشائكة التى كان من نتيجة تشابكها تشويه التاريخ الإسلامي وكبار الصحابة, بل والتراث الإسلامي بصفة عامة خاصة كتب تفسير القرآن والحديث والفقه, ورأينا من يتطرف فى حرية الرأى فيصف التراث بأن أصحابه »حثالة »وأنه ليس عندهم عقل ولا فكر, وللأسف تتيح لهم بعض القنوات الفضائية مساحات زمنية لا تمنح لغيره, ولاشك أن مثل هؤلاء الذين يهاجمون التراث يكونون سببا فى نشر التطرف والأفكار المتشددة, وفقا لقانون »لكل فعل رد فعل مساو له فى الحركة ومضاد له فى الاتجاه«. مناهج الأزهر يوجه البعض الى مناهج الأزهر سواء على مستوى المعاهد أو على مستوى الجامعة سهام النقد بأنها متشددة وتحرض على العنف, فما هو تعقيبك؟ هذه قضية شائكة ومتلبسة بالواقع الذى نعيشه, والمشكلة تكمن فى أن المعلومات التى تدرس للطالب تراثية صحيحة فى ضوء رأى العلماء المتعددين, وقد كنا ندرس فى الأزهر القضية فى ضوء آراء العلماء سواء فى الفقه أو النحو أو المنطق أو التوحيد وكان لكل صاحب رأى حجته, وفى النهاية يميل المؤلف إلى رأى الأغلبية, وغالبا ما يكون مريحا, وبالتالي فإن مناهج الأزهر منذ ما يزيد على العشرين عاما كانت معتدلة متوازنة علمية تناقش الرأي والرأي الآخر, ولكن القصور نتج - فيما بعد - عن اختصار هذه المناهج فى بعض المقررات نظرا لضعف مستوى الطلاب وكثرة المواد, فحذفت الآراء المتعددة ولم يبق - مع التحفظ الشديد - إلا الآراء التى فيها تشدد بحجة أن هذا أحوط, وهذا الجانب جعل بعض الطلاب يأخذ بعض الأحكام على أنها تمثل الحكم الصحيح ولا يوجد سواه, ولا يتعرف على الحقيقة إلا بعد دخوله الجامعة فيرى مثلا فى الفقه آراء متعددة كثيرة كذلك فى التفسير والنحو والحديث, وخروجا من هذا المأزق أرجو أن يدرس للطلاب فى المرحلة الإعدادية والثانوية بالأزهر الفقه على المذاهب الأربعة, حتى يتعرف الطالب على الأحكام الفقهية المتعددة, ثم يبدأ التخصص فى الجامعة حول المذاهب الأربعة, وأن يظل الطالب فى كلية الشريعة وغيرها على عهدهم بدراسة المذاهب الأربعة بتوسع والأمر نفسه فى دراسة آيات الأحكام فى أصول الدين, فهذا هو المدخل الصحيح لتجديد الخطاب الدينى, والتجديد هنا يكون على أسس دينية علمية وليس كلاما إنشائيا أو خطابيا, وأيضا لابد من العناية باللغة العربية وصحة الأداء اللغوى وإتقان حفظ القرآن الكريم, وضعف الطالب الأزهري بعدما يتخرج فى الجامعة يرجع الى عدم إتقانه حفظ القرآن الكريم, وهذا يظهر عند الأئمة والخطباء حينما يخطئون فى نطق الآيات والأحاديث النبوية, بل وفى الأحكام الشرعية أثناء الدروس فى المساجد، لذلك تلافيا لهذا النقص ورغبة فى رؤية الداعي المستنير.