لم تعرف البشرية مرضا مزمنا وممتدا مثل هذا المرض الذى نال من الأُخوة فى القارة الأفريقية عامة وجنوب أفريقيا خاصة، وعلى الرغم من كل ما قيل عن الممارسات العنصرية فى هذه البقعة من العالم فإن حجم ما كتب وما تم تناوله لا يفى بالغرض والقصد هنا فضح هذه الممارسات التى ارتبطت بالأساس بالإنسان الأبيض الأوروبى الذى جاء مستكشفاً فى البداية تحت مزاعم نشر تعاليم السيد المسيح والقضاء على التخلف فى تلك القارة المظلمة. .......................................................................... هذه الكلمات كانت فى قلب وعقل رواد الكشوف الجغرافية ومعهم فئة من رجال الدين باعوا ضمائرهم من أجل المال والنفوذ والكراسى الرخامية الوثيرة على شواطئنا الأفريقية، وكانت البدايات فى عمليات استرقاق الأفارقة فى الساحل الغربى ثم انتقلت إلى كافة مناطق القارة على السواحل ثم فى العمق بعد ذلك، هذه الصفحة التى كانت تمثل البدايات لنشر الأفكار التى تم البناء عليها لاحقا لتحقيق التمايز أولا بين العقل الأوروبى الأبيض والعقل الأفريقى الأسود الذى كان فى تصورهم لا يقدر على فعل أى شىء إلا من خلال المساعدة البيضاء، وكانت النظرة السائدة أن الأفريقى فى منزلة أقل من الحيوانات وكانت الممارسات تعكس بشاعة هذه الأفكار حيث كان يتم تعلم الرماية على رؤوس الأفارقة وقياس فاعلية الديناميت بتلغيم أجسادهم وممارسة كافة أشكال التعذيب البدنى والنفسى على الإنسان الأفريقى فى حضور ذويه حتى لا تقوم له قائمة بعد ذلك. أما عن جنوب أفريقيا تلك الدولة التى بدأ مشوار الخلاص فيها من العنصرية بينلسون مانديلا هذه الدولة التى تقع فى أقصى جنوب القارة السمراء فقد كان ظهور داء العنصرية وافداً إليها مع قدوم الإنسان الأبيض الأوروبى إلى الكيب عام 1652 تحت قيادة البحارة الهولندى «فان ريبك» الذى أحضر معه بعض أبناء جنسه لحماية مصالح شركة الهندالشرقية الهولندية وإقامة محطة فى الكيب لتموين السفن، وجاءوا فى البداية على واقع الحذر ولهذه الوظيفة فقط، وأنشأوا أسوارا عالية حول أماكن إقامتهم خوفا من أصحاب الأرض وأكرر أصحاب الأرض من الأفارقة ثم توسع الاستيطان الأبيض وهاجر إلى هذه البقعة الأفريقية الكثير من البشر وبدأوا نشاط الزراعة ثم الرعى بعد ذلك، وما ينبغى التأكيد عليه الآن أن معظم الوافدين إلى الكيب كانوا من أصول هولندية ثم برتغالية وإنجليزية بعد ذلك وكونوا قومية جديدة عرفت بالقومية الأفريكانية وتحدثوا بلغة الأفريكانز، وهى لغة خليط بين اللغات المحلية الأفريقية والهولندية، واحتاج هؤلاء البشر من البيض إلى عمالة لدعم نشاطهم الزراعى والرعوى فكان اللجوء للعمالة الآسيوية وخصوصا من الهند وباكستان والشرق الأقصى وبدأت عمليات نهب الأفارقة واستيطان الأراضى والاستيلاء عليها من مزارعى البوير (الاسم الذى عُرف به المستوطنون من هولندا) ونجحوا فى ذلك، وفى ظل التنافس الاستعمارى فى السلب والنهب انتبهت بريطانيا العظمى لأهمية الكيب فسارعت إلى استعمارها وأحضرت إليها مواطنيها الإنجليز ، رحب البوير فى البداية بالإنجليز على خلفية مساعدتهم فى حروبهم المستمرة والطويلة مع أصحاب الأرض من الأفارقة، هذا الترحيب لم يستمر طويلا وتحول الوفاق إلى صراع وحروب كانت النصرة فيها للإنجليز لذلك عمد البوير إلى الهروب إلى الداخل فيما عُرف بالهجرة الكبرى (لاحظ هنا المحاكاة مع ما سرده رواد الصهاينة الأُول) حتى انتهوا إلى تكوين مستعمرة «الناتال» ثم «الأورانج» و«الترانسيفال»، ومع اكتشاف الذهب والألماس ظل الصراع ممتدا على الثروات الأفريقية بين اللصوص الذين حضروا تباعا إلى سواحلنا وأرضنا الأفريقية التى كان يعيش عليها الإنسان الأفريقى فى تنظيمات سياسية مبكرة يسيطر عليها الولاء لزعماء القبائل والولاء للقيم الروحية التى كانت سابقة على مثيلتها فى الحضارة الأوروبية المزعومة. وحدثت الكارثة الأكبر بوصول الحزب الوطنى البويرى العنصرى إلى السلطة عام 1948 وبدأ تطبيق سياسة «الأبارتهيد» أى التفرقة العنصرية بشكل قانونى ومؤسسى واضح وظلت السياسات العنصرية واعتمادا على أفكار التمايز وشعب الله المختار فى رسم مظاهر الظلم الممتد عبر التاريخ الطويل من ممارسات الرجل الأبيض الذى لم يعرف يوما معنى الإنسانية وهذا قول حسن، لأن الواقع كان يشير إلى أبشع من ذلك ويكفى أن نقول إن دور العبادة والكلام مع الله الخالق كانت تتم على أسس التفرقة باب للإنسان الأبيض وآخر للإنسان الأسود العبد، وتخصيص الأعمال التى تتسم بالدونية والحقارة للإنسان الأسود ومنعه من التعليم والثقافة لحد معين وكذلك المنع من حق الانتخاب وحق الملكية والتمايز فى كل أشكال ومناحى الحياة بل وصل الأمر إلى حجزهم فى بانتوستانات بحيث لا يحق لهم التنقل فى أماكن البيض ولا العمل إلا من خلال تصاريح من الرجل الأبيض. كان هذا تأصيلا واجبا على مرض وفيروس العنصرية الذى دام طويلا ومازال وللموضوعية فإنه داء أبيض وما كان ليحدث لولا العقلية البيضاء التى أسست وكرست للاستغلال والاستعمار الذى كان يعبر عن ثقافة عنصرية بالأساس، لذلك فإن الرسالة من وراء هذا التأصيل هو الوصول إلى ثورة ثقافية تخلص الأحفاد مما فعله الأجداد فى الماضى وليكن معلوما أن الحضارة الأفريقية والهوية السوداء قامت على احترام الكبير والميل الفطرى لإقامة العدالة والمُضى قدما نحو قبول الآخر والترحيب به بعيدا عن المادية والاستغلال الذى سيطر على الحضارة الأوروبية، فهل آن الأوان لتخليص البشرية من هذا الداء الممتد؟ نحتاج إلى جهد كبير وممتد لأن إصلاح العقول والثقافة والفهم عملية شاقة وأراها حلما ليس بالمستحيل....