أثير فى الآونة الأخيرة الحديث عن اختفاء نحو 32 مليار جنيه من موازنة الدولة، وذلك بعد أن نشرت بعض المواقع الإلكترونية خبرا مفاده أن الجهاز المركزى للمحاسبات قد كشف عن اختفاء مبلغ 32.4 مليار جنيه من موازنة 2014/2015 ورغم غرابة هذا الأمر واستحالته من الناحية العلمية والعملية، فإن البعض وللأسف منهم أساتذة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكتاب اعمدة صحفية، قد صدقوا الخبر وقاموا بالتعليق والتحليل باعتباره حقيقة مؤكدة، دون ان يحاول أى منهم معرفة الموضوع الأساسى والتحقق من المسألة. ولكن الموضوع ببساطة شديدة أن الجهاز المركزى للمحاسبات فى تقريره عن الحساب الختامى للجهاز الإدارى للدولة عن العام المالى 2014/2015 قد نص حرفيا على(عدم تضمين إيرادات الدولة بمبلغ 32504.6 مليون جنيه تمثل قيمة المبالغ الواردة من الدول العربية، المجنبة بالحسابات المتنوعة ذات الأرصدة، بالمخالفة لقرار رئيس الجمهورية رقم 105 لسنة 2013 بفتح اعتماد إضافى للموازنة العامة للدولة للعام المالى 2013/2014 والذى أشار الى استخدام الرصيد المتبقى عن تلك المبالغ فى خفض عجز الموازنة). وقد جاء القرار المذكور بالسماح للبنك المركزى باستخدام مبلغ 8.78 مليار دولار المودعة لديه واضافة المعادل بالجنيه المصرى ومقداره 60.348 مليار جنيه لحساب وزارة المالية واستخدامه. وجدير بالذكر ان هذا المبلغ عبارة عن المنح والمساعدات التى كانت قد حصلت عليها الحكومة المصرية عقب أحداث الزلزال الشهير (أكتوبر 1992) واحتفظ بها الرئيس الأسبق مبارك فى حساب خاص لدى البنك المركزي، وهى ليست ضمن المنح والمساعدات التى حصلت عليها البلاد خلال الفترة (2011 -2016) والتى تقدر بنحو 31 مليار دولار وفقا لما أوضحه البنك المركزى المصرى فى تقريره المقدم الى مجلس النواب أخيرا، حيث يخلط البعض بين الاثنين بصورة تبدو متعمدة تماما لإثارة البلبلة فى المجتمع. وهنا يتضح لنا عدة أمور أولها أن الحديث من جانب الجهاز يتعلق باختلاف فى قيود محاسبية وهى مغايرة تماما عن مفهوم الاختفاء الذى أشار اليه البعض، إذ إن الثانية تعنى السرقة او الاختلاس بينما المقصود هنا هو تعديل قيد محاسبى تنفيذا للقرار المشار إليه آنفا إذ قامت وزارة المالية بتضمينه ضمن الحسابات المتنوعة بالبنك المركزي، بينما يرى الجهاز تضمينها لإيرادات الدولة. وثانيهما، ان عدم تضمين هذه المبالغ للإيرادات العامة الدولة وبالتالى استخدامها فى تخفيض قيمة العجز بالموازنة، هو أمر يحسب لوزارة المالية وليس العكس لانها لم تحاول تجميل الوضع بإضافة هذه الأموال الى إيرادات الدولة وبالتالى تنخفض قيمة العجز على غير حقيقته يضاف الى ما سبق أن القرار الجمهورى رقم 105 لسنة 2013 والخاص بفتح اعتماد إضافى للموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2013/2014 باجمالى اعتمادات 29.738 مليار جنيه, قد نص على ان يتم استخدام الجزء الباقى من المبلغ فى خفض عجز الموازنة، وكان الهدف منه انتشال الاقتصاد المصرى من عثرته ورفع معدلات النمو وذلك بتمويل برنامج التحفيز الاقتصادى وتحسين مستويات الخدمة العامة حيث تضمن مجموعة من البرامج الاستثمارية مثل تطوير شبكة الطرق والنقل والإسكان الاجتماعى وتطوير شبكات الشرب والصرف الصحى بالإضافة الى بعض البرامج الاجتماعية مثل التغذية المدرسية والإعفاء من المصروفات الدراسية ومصروفات المدن الجامعية ودعم ألبان الأطفال وغيرهم من برامج جاءت تحت الخطة العاجلة لتنشيط الاقتصاد والتأسيس للعدالة الاجتماعية. على الرغم من قيام الجهاز المركزى للمحاسبات بإصدار العديد من التقارير السنوية فإن أهمها على الإطلاق يتعلق بتقريره عن الحساب الختامى للموازنة العامة ويرجع السبب فى ذلك هو تحقيق نوعين من الرقابة الأولى دستورية والثانية اقتصادية ومالية. ومن حيث الوظيفة الأولى تعد الموازنة وثيقة سياسية وقانونية تخدم أهداف الرقابة الدستورية وتضمن المشاركة الفعالة من جانب جميع فئات المجتمع. وهو ما يتطلب بدوره المعرفة الكاملة بالأوضاع المالية وبالتالى الشفافية المطلقة فى عرض بنود الموازنة ليس فقط للأغراض الاقتصادية، ولكن وهو الأهم من اجل المزيد من المساءلة السياسية أمام السلطات الرقابية والتشريعية والشعبية. لذلك يقوم الجهاز المركزى للمحاسبات بإعداد تقارير سنوية عن الحسابات الختامية لجميع أجهزة الدولة ويقدمها إلى مجلس النواب وفى الوقت ذاته تقوم وزارة المالية بدراسة هذه التقارير والرد عليها أما بالتوضيح أو بالاتفاق مع وجهة نظر الجهاز، على ان تتولى لجنة الخطة والموازنة إعداد تقرير متكامل حول كل هذه القضايا للعرض على مجلس النواب لمناقشته وطرح التوصيات المتعلقة بما يثار حول هذا الشأن. وترجع الحكمة من ذلك إلى رغبة المشرع فى التفرقة بين المراقبة المالية والمحاسبية والتى يتولاها الجهاز والدور الاقتصادى للسياسة المالية الذى يراقبه مجلس النواب.هذا فضلا عن اقتناع المشرع بأنه لايمكن بأى حال من الأحوال أن تتطابق الموازنة العامة تطابقا تاما مع الحساب الختامى نتيجة لظروف وتعقيدات الحياة الاقتصادية والاجتماعية فهناك دائما هامش للاختلاف فيما بينهما ، وهو ما يتوقف بدوره على طبيعة الظروف الاجتماعية بالبلاد ومستوى التطور الاقتصادى بها ، ودرجة انسيابية المعلومات والبيانات الاقتصادية المختلفة ومدى جودتها ومصداقيتها، وكلها أمور تختلف من بلد إلى بلد ، ولذلك كان من الطبيعى والمنطقى أن يترك للسلطة التشريعية تقدير مدى الانحراف المطلوب فى الحساب الختامى عن الموازنة وجدواه الاقتصادية والمجتمعية. وعلى الجانب الآخر فإن التجاوزات تنقسم بدورها إلى تجاوزات مرخص بها ونقصد بها تلك التى تتعلق بالتأشيرات الملحقة بقانون الموازنة العامة للدولة والهيئات الاقتصادية وهناك تجاوزات غير مرخص بها وهى التى تخرج عن نطاق هذه التأشيرات وتحتاج إلى موافقة السلطة التشريعية لإقرارها. لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى