شكلت قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية لصالح فوز ترامب والتى أثبتتها تقارير الاستخبارات الأمريكية, أزمة حادة فى علاقات الدولتين بعد فرض الرئيس أوباما عقوبات على موسكو وطرد 35 دبلوماسيا روسيا لديها, إضافة إلى عقوبات على جهازى استخبارات روسى, وهو ما يضع عقبات كبيرة أمام الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب فى اتجاه التقارب والتطبيع مع روسيا. فقد شهدت العلاقات الأمريكية الروسية حالة من الشد والجذب والتوتر خلال إدارة الرئيس أوباما نتيجة لتضارب المواقف وتعارض المصالح فى العديد من القضايا العالمية والإقليمية, كان أبرزها قضية الدرع الصاروخية التى أقامتها الولاياتالمتحدة فى شرق أوروبا واعتبرته موسكو تهديدا مباشرا لها, كذلك توسع وتمدد حلف الأطلنطى شرقا لتطويق روسيا, ثم الثورات البرتقالية فى جورجياوأوكرانيا واتهامات موسكو لأوباما ووزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون بدعم الحركات المعارضة والمظاهرات الحاشدة ضد بوتين في عام 2012, وأعقبها الأزمة الأوكرانية وفرض عقوبات أمريكية وأوروبية على روسيا نتيجة لضمها شبه جزيرة القرم بالقوة ودعم المتمردين المعارضين فى أوكرانيا فى 2014. وشكلت ثورات الربيع العربى أحد مجالات التوتر والتباعد فى المواقف بين الدولتين, ففى الازمة الليبية عارضت موسكو, رغم موافقتها على قرار مجلس الأمن, التدخل العسكرى لإسقاط نظام القذافى, وانحازت موسكو فى الأزمة السورية إلى جانب نظام بشار, واتخذت موقفا معاديا ضد المعارضة المسلحة الإسلامية لاعتبارات تتعلق بتهديدات الإسلاميين فى أراضيها, بينما انحازت الولاياتالمتحدة إلى جانب المعارضة المسلحة, لكن روسيا استطاعت أن تصبح اللاعب الرئيسى فى الأزمة بعد تدخلها العسكرى المباشر وتغيير موازين القوى ومسارات الأزمة والحل السياسى نتيجة لتراجع وانسحاب أمريكى وفقا لعقيدة أوباما بعد التورط المباشر فى الأزمات المسلحة وإعادة التموضع فى أماكن أخرى مثل شرق آسيا. وجاءت أزمة التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية فى ختام فترة الرئيس أوباما لتزيد من حدة التوتر بينهما, وتفرض تحديات كبيرة أمام الرئيس ترامب, الذى أبدى انحيازا واضحا خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه فى التوجه نحو تطبيع العلاقات والتقارب مع الرئيس بوتين والذى أشاد بذكائه وبسياساته خاصة فى الأزمة السورية ومحاربة تنظيم داعش وحتى فى أزمة طرد الدبلوماسيين, واختيار عدد من أعضاء إدارته المقربين من موسكو مثل وزير الخارجية تيلرسون. فهناك عدد من العوامل التى تضع حدودا على مستوى التغير فى العلاقات الأمريكية الروسية خلال إدارة ترامب أبرزها: أولها: أن أزمة الاختراق الإلكترونى الروسى لأجهزة الحاسوب الخاصة بالحزب الديمقراطى وتسريبها لموقع ويكلكس, لم تؤثر فقط على فرص فوز كلينتون, بل تمس النظام الانتخابى والأمن القومى للولايات المتحدة, وهو ما أوجد رد فعل قويا غاضبا سواء من جانب إدارة أوباما وكذلك الكونجرس الذى يسيطر عليه الجمهوريون وطالبوا بعقوبات مشددة على روسيا, واعتبره البعض عملا عدائيا, ومن الصعب على ترامب, حتى فى ظل توجهاته بالتقارب مع بوتين, أن يتجاهل تقارير الأجهزة الأمنية وعلى رأسها أجهزة الاستخبارات المتعددة ذات النفوذ القوى فى النظام الأمريكى, فقد جاء رد فعله المشكك فى تقارير الاستخبارات والتقليل من أهمية هذه القضية والدعوة للتحرك للأمام لاعتبارات تتعلق بإبعاد أى شكوك حول شرعيته الانتخابية وأنه فاز بتدخل دولة أجنبية, لكن حماية الأمن الإلكترونى الأمريكى وصورة وهيبة الولاياتالمتحدة تفرض عليه اتخاذ مواقف رادعة تجاه موسكو كمدافع عن الديمقراطية الأمريكية مع ضغط الكونجرس والأجهزة الأمنية عليه. ثانيها: هناك إطار حاكم ومعقد للعلاقات بين البلدين يضع قيودا على مستوى التطبيع بينهما فى ظل تعارض مصالحهما فى العديد من القضايا المرتبطة بسباق التسلح والوجود العسكرى الأمريكى على حدود روسيا, وكذلك وضع الدولتين فى النظام الدولى, حيث تسعى روسيا لتغيير النظام الأحادى الذى ساد بعد الحرب الباردة وإنهاء هيمنة الولاياتالمتحدة عليه وإيجاد نظام دولى متعدد القوى تكون روسيا أحد أقطابه بعد تصاعد دورها فى السنوات الأخيرة خاصة فى معالجة الأزمات الدولية مثل أوكرانياوسوريا والشرق الأوسط, بينما تحاول الولاياتالمتحدة الحفاظ على نفوذها فى المنطقة وفى العالم, وهو ما يجعل حالة التنافس والمواجهة مستمرة, لكن مع تجنب المواجهة المسلحة المباشرة والاعتماد على أشكالا أخرى مثل الحرب بالوكالة والحروب الإلكترونية فى ظل تراجع الإيديولوجيا وتعاظم المصالح ودور الاقتصاد فى توجيه السياسة فى إدارة العلاقات الدولية. ثالثها: التغير فى سياسة إدارة ترامب تجاه روسيا سيكون فى إطار الآليات فقط مثل تحسن الخطاب السياسى وتقارب العلاقات الشخصية مع بوتين, والتنسيق فى بعض القضايا مثل محاربة الإرهاب والقضاء على تنظيم داعش فى سوريا والعراق, لكن دون حدوث تغير جوهرى على المستوى الإستراتيجى باعتبار روسيا إلى جانب الصين أبرز خصوم أمريكا الرئيسيين فى إطار الصراع على المصالح ومناطق النفوذ العالمية, وفى ظل تركة ثقيلة خلفها أوباما الخارجية تفرض على ترامب انتهاج الواقعية فى التعامل معها مع ضعف خبرته فى السياسة الخارجية. لمزيد من مقالات د. أحمد سيد احمد