لا يذكرنى أحد بأن الرواية عالم من الخيال يبدعه الروائي. لها واقعها الخاص، ولا يمكن مقارنة ما تقدمه الرواية بالواقع المكتوبة عنه. لأنها تعكس الحياة اليومية والناس الذين يعيشون فيها، مضافاً لها خيال الروائي. لكن إن ظهر فى الرواية أبطال عرفناهم فى الحياة اليومية، فلا بد من تحرى الدقة فيما نكتبه عنهم من وقائع وأمكنة وتواريخ. حتى إن اقتضت الضرورة إجراء بعض التغييرات الطفيفة بين الواقع كما هو، وما نراه فى الرواية أصبح حتماً على الروائى أن يثبت هامشاً إما أسفل الصفحة أو بعد انتهاء الرواية ليوضح هذا اللبس ويشرح التغيير. لأن الرواية كون صغير يقدم أحداثاً وبشراً يعيشون فى أزمنة ويتحركون خلال أمكنة. وهذا الكون الصغير لا بد أن يعتمد فى حركته على منطق روائى متماسك يقبله القارئ ويتعامل معه على أنه يعكس ظلال الحقيقة. فى رواية جيلبرت سينويه، البكباشى والملك الطفل مذكرات من مصر، التى ترجمها إلى العربية محمد التهامى العماري، ونشرتها منشورات الجمل. يحكى المؤلف: عندما وصل الملك فاروق إلى مصر بعد وفاة والده جاء فى الخامس عشر من مايو 1936، هذه حقيقة تاريخية. لكن الروائى يصف اليوم بأنه كان يوماً قائظاً. ومن المعروف أن أيام مايو لا تصل لحدود القيظ. لكنها تشكل المعبر بين الربيع والصيف. الأهم أنه يؤكد أن القطار الذى استقله الملك من الإسكندرية للقاهرة قطع المسافة فى أقل من ساعتين. ولأن عقل الروائى الباطن ربما أدرك عدم دقة المعلومة. فقد أردفها بقوله: وهى سرعة قياسية. ولا يمكن لقطارات 1936 أن تقطع المسافة من الإسكندرية إلى القاهرة فى ساعتين. وقد يقبل الإنسان المعلومة من باب الخيال الروائي. لكن ما لا يمكن قبوله أن يصف المنطقة التى نشأ فيها جمال عبد الناصر بسيدنا الحسين بأنها خميس العدس. وهى خميس العهد. والفارق بين العهد والعدس كبير. أيضاً القول إن عبدالناصر كان يتردد على حديقة مسجد سيدى الشعراوى من أجل الدراسة والتأمل. ولا أعتقد أن المعلومة صحيحة. يمكن أن تكون الشعرانى وليست الشعراوي. أما ما يقوله عن أحمد حسين مؤسس مصر الفتاة عن أنه محام شديد الشبه بجوبلس وهو رجل مشاغب ومضطرب الشخصية. محتال وهيستيري. يكتب هذا الكلام استناداً إلى أحمد أبو الفتح، دون أن يحدد المصدر الذى رجع له. وحتى لو كان أحمد أبو الفتح كتب هذا الكلام عن أحمد حسين، فإن نقله لا بد أن يتم فى إطارات أخري. أما ما كتبه عن عبد الحكيم عامر باعتباره من الذين صنعوا ثورة يوليو. فلا يمكن نقله هنا ولا نشره. لأنه يمكن أن ينطبق عليه السب والقذف. وعندما يكتب عن السادات أنه ولد فى قرية ميت أبو الكوم. يقول بعدها أنها نفس القرية التى سيرى النور فيها خليفته حسنى مبارك. وهذا كلام غير صحيح جملة وتفصيلاً. وعندما ينسب لعزيز المصرى رتبة المشير. ولم تكن معروفة فى وقتها. فى هامش عن حسن البنا يورد معلومات. لكن المعلومة الأهم أنه أسس يوم 11 أبريل 1929 جماعة الإخوان، ومن ثوابت التاريخ المصرى أنها أسست فى العام السابق، أى فى 1928. وعندما يحدد يوم دخول القوات الألمانية إلى بنى غازى فى الحرب العالمية الثانية. يحدد اليوم بأنه الفاتح من فبراير 1942. والفاتح هذه لم تستخدم قبل تواريخ ما جرى فى ليبيا إلا بعد حكم القذافى لها. ولم تعرف قبل ذلك. فى كتابته عن مايلز لامبسون يحدد مكان السفارة البريطانية فى مصر، ويقول إنها 10 شارع طليمات. والصحيح أنه شارع الطلمبات بجاردن سيتي. فلم يكن زكى طليمات توفي، ولا أطلق اسمه على أى معلم فى القاهرة. ولحظة ظهور أحمد حسنين باشا فى الرواية. يجد الروائى الجرأة أن يسميه محمد حسنين باشا. ثم يشير لمطرب من أصول يونانية فى الإسكندرية باسم ديميس روسوس، 1948، ومن المؤكد أن الواقعة غير صحيحة. كراهيته لعبد الناصر ربما كانت سبب عودتى للكتابة عن هذه الرواية مرة أخري. غلاف الرواية تحتله صورة لعبد الناصر بملابسه العسكرية، وبجوارها صورة للملك فاروق بطربوشه. أى أن المؤلف ارتضى أن يكون عبد الناصر بطل روايته. لكن الكراهية تخل بالمطلوب من الروائى من الموضوعية الفنية. ينسب لعبد الناصر قوله أيام حرب 1948: لو قيض لى أن أصير مسئولاً، سأفكر ملياً قبل أن أبعث بجنودى إلى الحرب. ثم يكتب الروائي: لكن الظاهر أنه نسى هذه الفكرة لما بعث الجيش المصرى إلى حتفه فى يونيو 1967. وعلاوة على كراهيته لعبد الناصر، فهو يكره حتى جيش مصر العظيم. فلم يذهب لحتفه. لكنه ذهب دفاعاً عن فلسطين. بصرف النظر عن النتائج. ويعود ليقول إن ما وقع 1948 للجيش سيتكرر 1967، لما احتلت إسرائيل فى ستة أيام سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. مع فارق أن المخدوع هذه المرة عبد الناصر ذاته. لمصر الجديدة مكان فى الرواية. باعتبارها من أحلام البارون إدوارد إمبان. لكن الرجل لا ينسى أنه كتب روايته ليهاجم ستينيات جمال عبد الناصر بمناسبة أو دون مناسبة. يكتب: وقد انتهى هذا الحلم فى سنوات الستينيات تحت الحكم الناصري. ورغم أن المكان لايزال موجوداً إلى اليوم. إلا أنه غارق تحت بحر من الغبار كسفينة متحللة، تكسوها قناديل بحر مقنعة. يذكر اسم الفريق أول فوزى بأنه محمود فوزي. وقد كان الرجل علماً من أعلام ذلك الزمان. وكنا نعلم أنه محمد فوزي. ويكررها أكثر من مرة. ما أكثر الأكاذيب الروائية فى الرواية. لكن ما يصل لدرجة التفوق غير العادى فى القدرة على الكذب أن الروائى يثبت مراجعه فى آخر الرواية ينسب للأستاذ محمد حسنين هيكل كتاباً عنوانه: فاروق كما عرفته. دار الشروق، طبعة أولي، سنة 2000. ولا يوجد للأستاذ هيكل أى كتاب يحمل العنوان. له كتابات عن الملك فاروق وثورة يوليو. لكن لا يوجد من بينها كتاب عن فاروق كما عرفه هيكل. لمزيد من مقالات يوسف القعيد;