فى لحظات الغروب... حين يكون الوقت تعدى ساعة العصارى التى يعشقها أهل مصر، يخيم شعور غالب بالحزن.يقول أجدادنا من أهل مصر أنه قدر ومكتوب على الغروب أن يحمل كل هذا الشجن. تفسير قد يبدو منطقيا، ولكن الغريب أنها لحظات تأتى بعد ساعة العصارى التى يصفها أيضا الأجداد بأنها أفضل أوقات يشاع فيها الود و الائتناس، وجلسة الأصحاب والأحباب، والاستماع لعذب الغناء والحكايات، والأغرب أن يأتى هذا التفسير من حكماء يعرفون تمام المعرفة أن كل يوم لابد له من شروق وغروب. ربما كان السبب اننا فى الأصل فلاحون، وأن ظلمة الليل تكون فى أيام يُفتقد فيها البدر، فتأخذنا العتمة بعيدا عن شجر الجميز والبردى وزهور اللوتس والصحبة فى الحقول والغيطان. ولكن حتى هذا السبب، لا يبدو كافيا. فلحظات الغروب فى رأيى ومنطقى، هى ظل لمعانى الصبر وطول البال الذى تعلمه أهل مصر من فراق إشراقة النهار، وانتظار فيضان النيل، وقسوة الأيام الصعبة التى تأخذ ولا تمنح، بل وفقد لحبيب كان يملأ حسه ومرحه كل أرجاء الدار . هذا هو حال أهل مصر، فالصبر مفتاح الفرج، والمعين على تحمل شدائد الحياة. وهذه الشيمة هى ما جعل لبر مصر روحا خالدة منذ آلاف السنوات. فاليأس والضجر والقنوط ليست كلمات فى قاموس البلاد، والمعنى الوحيد للابتعاد لا يكون إلا فى فراق الأحباب من الشهداء. سيرة طويلة جدا، حين نحكى عن شهداء المحروسة من كل زمان. سيرة نعرفها منذ زمن الملك مينا نعرمر أول ملوك مصر الموحدة الذى كانت أولى مهامه حماية الأرض، وتأمين مصر بشن غارة على من يريدونها من غير أهل مصر. وقد تطلب الأمر تأمينا لحدود المحروسة ومعارك وحملات نجح فى إحداها- والعهدة على المؤرخ الكبير جيمس هنرى برستيد- فى أن يأسر حوالى مائة ألف شخص من الأعداء. رقم كبير جدا بحسابات ذلك الزمن البعيد، ولكن هذا إن كان يعنى شيئا فى المقابل فهو وجود الآلاف من الشهداء الذين ضحوا. نترك مينا وزمن الأسر الحاكمة الأولي، ولكن دعونا نعرف أن ما حدث لم يكن مجرد حادث عابر، فهو مبدأ تكرر فى عهود كل الحكام الذين استوعبوا فكرة الدفاع العزيز عن بر مصر، ليبدو مشهدا معتادا لقارئ السير المصرية. فى بر مصر، وفى كل زمن, هناك من يريد أن يصيب البلاد بسوء, ولا يهم إن كان من الشرق أو الغرب، فالمهم أنه فى كل وقت يوجد من يدافع عنها، ولا يطلب جزاء أو أجراً لقاء ما يقدم. لهذا يبدو سجل المجتهدين والشهداء ضخما يعج بالكثير من القصص والحكايات، فصفحاته يصعب قراءتها كاملة، ولكننى أود أن أتوقف عند صفحة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام. والمشهد نفسه وصفه المؤرخ مانيتون السمنودى . دعونا أولا نقترب لنري، فمؤرخنا العزيز يتساءل قبل أن يحكى؟! لماذا أنزل الله بنا نقمته؟! أما تفاصيل الحكاية - كما يقول- فتتناول سيرة ملك يدعى تيماوس. وقد حدث فى عصره ولسبب لم يوضحه مانيتون- أن الاله كان غاضبا علينا، فأتى من الشرق فى حالة غريبة قوم من جنس مجهول عولوا على غزو بلادنا، واستطاعوا أن يخضعوها بقوتهم دون معارك. ولما اخضعوا حاكمنا حرقوا مدننا، وأوقعوا بأهلنا كل أنواع القسوة، فذبحوا البعض واستعبدوا نساء وأطفال. تكفى هذه الشهادة من مانيتون عن هذا الغزو الذى استبسل أمامه أهل مصر، وكلفهم هذه التكلفة الباهظة من سنوات الرق والشهداء. كان الفرعون الشاب سقنن رع واحدا من الذين قتلوا غدرا، وتبعه ابنه كامس حتى جاء أحمس الذى استطاع أخيرا أن يخلص مصر من هذا الحكم الذى كلفهم شهادة الطفل والأم والأب. كان درسا قاسيا، ولكنه بالتأكيد ليس نهاية القصة، فهناك أكثر من شهيد لا يعرفه أحد. نتوقف عند واقعة أخرى قد تبدو مجهولة وقعت فى عصر البطالمة. فهؤلاء الحكام الأجانب هم فى واقعهم مستعمرون وإن تخفوا وراء سياسة توافقية، لأنهم فى النهاية ليسوا مصريين. دعونا نعترف أنه لكى يكون هناك استعمار، لابد وأن تكون هناك خلافات وانسحاب لأهل مصر. الانسحاب يعنى عدم إدراك ما يدور ويحاك حولك، وأن تستنزفك مشاكلك ولقمة العيش، فتنسى أو تتناسى أنك صاحب شخصية لها وجود و كيان. ساعتها قد يذهب بك هذا التغافل إلى أن تسلم قيادة حالك لأخرين، وهى محنة عرفها المصريون ولكنهم تجاوزوها حين انخرطوا فى الجيش النظامى عندما دعت الحاجة الحكام البطالمة أن يستعينوا بالمصريين الذين تحقق لهم النصر على أعدائهم فى معركة رفح 217 قبل الميلاد. أصبحت هذه المعركة كما يقول د. إبراهيم نصحى فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد البطالمة» حدا فاصلا بين عهدين عهد بلغت فيه دولة البطالمة أقصى اتساعها وأوج مجدها، والعهد الذى أخذت تدب فيها عوامل الضعف والاضمحلال. لا عجب فى ذلك، فقد كان المصريون وقتها يتساءلون.. الم تُصَب مصر بالوهن مرات ومرات حتى تصبح كالارض الشراقي، ثم تعود؟ واقعة يضيف إليها الكاتب كامل زهيرى تاريخا أخر للشهداء حين استقدم الرومان عسكرا من المستعمرات، كان من ضمنهم 4500 وقيل 6600جندى مصرى وهم فيلق طيبة القادم من الصعيد ليحارب فى أوروبا. ذهب المصريون فى هذا الزمن إلى ايرلنداوسويسرا بعد انتصارهم فى بلاد «الغال» لقمع ثورة، فطلب منهم الامبراطور تأدية صلاة شكر والتبخير للأوثان، فرفض المصريون حيث أن الرومان كانوا لا يزالون وثنيين فى حين أن المصريين كانوا من الموحدين. فأمر بقتلهم، ليكون لاستشهادهم تأثير روحى على أهل سويسرا الذين مازالوا يقدرونهم، حتى أن خاتم بلدية زيورخ حمل صورة هؤلاء المصريين. حكاية شفيقة ومنصور هذا بعض من كثير، وقصص قد هجرها أهل مصر الذين اعتنقوا منذ البدايات مبدأ الشهادة من أجل الوطن والقيم الجليلة. فمنهم الشهداء فى زمن دقليديانوس وعند غزو المغول والصليبيين، ومنهم المحاربون الذين يريدون أن يحصلوا من هذه الحياة على أفضل ما فيها.. الوطن والعقيدة. نحن ندفع ثمن الطمأنينة والسلام فى بر مصر، ولسنا كبلاد أخرى تبحث كثيرا فى دفاترها القديمة عن قصة شهامة أو تضحية. لهذا قد ننسى الجندى منصور الذى كان كما يحكى الأمير عمر طوسون حفيد محمد على باشا من بين الجنود الذين قاتلوا فى حمص ضمن فرسان الفرقة السابعة فى الجيش المصري، وقد بترت ذراعه، ولم يرض أن ينسحب من ميدان الحرب و ظل يقاتل حتى استشهد. ولا نتذكر الجراح محمد على البقلى أول مدير مصرى لمدرسة القصر العينى الذى استمر فى العمل باجتهاد شديد منذ عودته من البعثة التى أرسلته مصر إليها فى فرنسا لدراسة الطب وحتى استشهد أثناء مهمة عمل فى شرق أفريقيا. ونتغافل عن زمرة من الذين استبسلوا فى الدفاع عن بلادهم ضد غزو الفرنسيس، ومعهم كل من ابتلعتهم أمواج البحر وهم يدافعون فى طوابى الأسكندرية مع أحمد عرابي. لا فرق بين شهيد وشهيدة، ولنتذكر شفيقة محمد ابنة حى الخليفة التى توجت أول شهيدة فى ثورة 1919 ولم تكن قد بلغت عامها الثامن عشر حين اندفعت إلى الشارع لتشارك فى المظاهرات المنددة بنفى سعد زغلول باشا ورفاقه، لتلقى حتفها برصاص الاحتلال. لم تكن شفيقة وحدها، فمعها مرقص وبولس ومحمد ومحمود الذين قدموا أرواحهم رسالة بعلم الوصول إلى مصر المحروسة. قدموها مرات ومرات، حين تعرض بر مصر للعدوان الثلاثى فى مدن القناة، وحين ثبتوا فوق كل شبر من الأرض بعد هزيمة1967، ولينتصروا بعدها ويعبروا بنفس الروح المصرية الأصيلة. فصول طويلة فى كتاب تزيد كل يوم صفحاته، فالمعارك والانتفاضات كثيرة، والتضحية امتياز مصرى وحكاية تعرفها كل البيوت فى كل زمن. ولكن أن يضاف إليها فصل يموت الشهيد فيه بأيدى إخوة فى الوطن، فهذا لم تعرفه مصر. والخروج عن هذا النص المصرى يكلفها كل ما قدمت لتستمر الحياة ولتبقى صامدة على مر العصور. فالخوف من فصل جديد يكتبه أخرون من غير أهل المحروسة ويودون أن يضيفوه إلى كتاب الشهداء المصريين، ولكن وكما أعتقد لن يستطيعوا، سيغلق هذا الكتاب صفحاته فى وجوههم. فالشهداء و الأبطال هم من يكتبون تاريخ الوطن.