لا يختلف الأمر بين صبح ومساء...فيمكننا أن نرى بوضوح قبة الشيخ أبو الهواء، وبأسفله دير قبطى، ومقابر نبلاء يعود معظمها إلى زمن الأسرة السادسة فى الجبل الصخرى على الضفة الغربية للنيل الذى يتلألأ بالأضواء فى الليل الدامس، فتستوقف نظر من يطوى صفحة النيل الواسعة. توليفة غريبة جمعت بين الولى و القديس وأجدادنا القدماء لا يعرفها أى مكان فى الدنيا سوى بر مصر. يبدو أن تيارات الهواء فى أعلى قمة الجبل هى التى صنعت شهرة ضريح الشيخ، و أن حالة اللجوء إلى الأرض المصرية هو من أوجد هذا الدير، أما نبلاء الفراعنة فهذه قصة أخرى. فهى تذكير بحضارة لم تعرف الدنيا لها مثيلا، و بدرس قاس عرفته مصر فى زمن الأسرة الفرعونية السادسة عندما قوى حكام الأقاليم، وكان معظمهم من الموظفين الذين لا يمتون بصلة قرابة إلى البيت المالك، فلم تكن تهمهم سوى رعاية مصالحهم الشخصية. وبازدياد نفوذ الكهنة وطبقة الملاك الجدد ذوى الألقاب الموروثة والضياع الواسعة، بدأت سلطة التاج تتقلص. هذا بعض من كثير تحكيه «موسوعة الحضارة المصرية» للمؤرخ الكبير محمد شفيق غربال، وبعض من حكايات تلاحقنا فى هذا المكان. وإن كانت تظل مقبرتا مخو الكاهن الذى لقى حتفه فى مجاهل إفريقيا، وحرخوف أشهر رحالة فى تاريخ مصر القديم، صاحبتا مكانة خاصة. فلا أحد يستطيع تجاهل حملات أهل مصر الاستكشافية فى إفريقيا وخاصة حملة حرخوف الرابعة التى نجح خلالها كما يقول د.عبد الحليم نور الدين فى الحصول على قزم، فكتب للملك بيبى الثانى يخبره هذا النبأ، فرد عليه الملك يطلب منه رعاية القزم والوصول به إلى العاصمة سالما. على بعض خطوات يمكننا أن نرى مقبرة اغاخان زعيم الطائفة الإسماعيلية الذى عالجت أسوان عظامه بعد أن يئس الأطباء، وعلى مرمى البصر المعابد و مقياس النيل. روايات كوم أمبو تلاحقك كل هذه المشاهد والسفينة تقطع رحلتها، إلى سهل كوم أمبو التى تعنى الذهبية، والمعروفة باسم «نبى» فى النصوص القديمة، و «انبو» و«امبو» فى النصوص القبطية. هى واحدة من أهم مراكز العمران فى العصر الحجرى الذى تركز فى حوض كوم أمبو كما كتب د. محيى الدين عبد اللطيف فى مؤلفه « كوم أمبو» - وظهرت أدوات بدائية للحياة سميت باسم الأدوات السبيلية نسبة إلى قرية سبيل. ويقال أيضا والعهدة على الجغرافيين إن النيل قد شهد ارتفاعا فى العصر الحجرى القديم، وانتشرت البرك و المستنقعات، وأن نشاط النيل فى تعميق مجراه و ازدياد الجفاف العام قداضطر هؤلاء السبيليين للهجرة. فى معبد كوم أمبو الذى يبدو أسطورة جميلة، يمكنك أن تقرأ التاريخ مدونا على الجدران، فالمعبد يعود إلى العصر البطلمى و قد استمرت أعمال التشييد حتى العصر الرومانى، و إن كان قد بنى على أنقاض معبد فى الدولة الفرعونية الحديثة. وهو معبد مزدوج, أى مقسم إلى قسمين، أولهما القسم الأيمن ويخص سوبك وزوجته حتحور و ابنهما خونسو، وثانيهما القسم الأيسر وهو مخصص لحورس وزوجته تاسنت نفرت وابنهما بانب تاوى. ورد فى الأساطير المصرية أن سوبك كان شقيقا لحورس الأخ الطيب الذى تغلب عليه سوبك و طرده من البلدة، فتبعه أهلها إلى المنفى. بعدها لم يجد سوبك من يزرع ويحصد، فلجأ إلى الموتى الذين بذروا رمالا فجفت الأرض. وهناك مقصورة خاصة بسوبك فى الشمال. غريب جدا هذا المعبد فهو يجمع بين الصالح والطالح، ولكن هذه هى الحياة كما يظهرها المعبد صاحب الحفرة المقدسة التى كان يوضع فيها تمساح حى، كأنه تمثيل لروح سوبك، ولهذا عثر على الكثير من مومياوات التماسيح فى المعبد وفى جبانة الشطب وهى مقسمة إلى جزءين شمالى وجنوبى يفصلها طريق منذ بداية الدولة الوسطى وحتى العصر اليونانى الرومانى. ليست هناك آثار ذات أهمية قبل عصر الأسرة الثامنة عشر واصلاحات تحتمس الثالث والكلام للمؤرخ جيمس بيكى فى مؤلفه الشهير «الآثار المصرية فى وادى النيل» ، لكن هذا المعبد يفرض تواجدا مهما لكوم أمبو فى عصر البطالمة، وقد عرفت الرخاء الاقتصادى بسبب عدد من المحطات العسكرية أقامها البطالمة على طول ساحل البحر الاحمر، لتصبح مركزا لتجارة الافيال ينافس ويحارب تجارة السلوقيين للأفيال الهندية. يبدو شامبليون مكتشف رموز حجر رشيد فى رسائله ومذكراته مؤكدا لهذا الواقع، فهذا المعبد الذى أراده بطليموس ابيفانس، وتابع إنشاؤه من بعده فيلوماتور يرجع إلى بناء أقدم خصصه تحتمس الثالث أعظم حكام مصر لسوبك- رع. حورس ينتصر تبدو إدفو كمدينة صاحبة قصة تستحق أن تروى ، فهى «دبو» أو «اديبو» مدينة الطعان والاقتحام كما قال لى محمد حسانين المرشد الشاب الذى يذكرنى بذلك الصراع بين اوزوريس وست الذى شاهدنا كل تفاصيله على جدران معبد فيلة. أعادت ايزيس الحياة لزوجها لتنجب حورس الذى أراد الانتقام لموت أبيه، وقد نجح هنا فى معبد أدفو فى الانتصار أخيرا على عمه ست . صحيح أنه قد دارت بينهما عدة معارك، فقد خلالها حورس عينه اليمنى الا أنه انتصر فى النهاية. ولهذا وضمن طقوس المعبد، يقدم الملك طبقا يضم عين حورس ليعود بصره. فقد أراد بطليموس الثالث كحاكم أن يبدأ بناء هذا المعبد فى العام العاشر من حكمه، أن يتقرب من حورس كرمز بأن ينسب لنفسه ولادة الهية داخل بيت الولادة الموجود بالمعبد. بعدها مرت سنوات وسنوات، استمر معبد إدفو الجميل مدفونا فى الرمال، حتى قام مارييت باشا بإعادة اكتشافه بعد أن اخلاه ممن بنوا عليه حظائر للبهائم. قامت مصلحة الآثار بصيانة معبد إدفو الذى يمكننا - وكما يقول محمد حسانين- المرشد السياحى الشاب، أن نرى قدس الأقداس فى حجرة صغيرة، لنلحظ وجود صالة أكبر بها أعمدة، بهو الأساطين، صالة مكشوفة وبناء ضخم وهو الصرح، وفي كثير من المعابد توجد مسلات وطريق ومرسى يربط المعبد بالنيل. هذا التخطيط الهندسى للمعابد كانت له مهمة إضفاء ظلال من السحر والغموض لساكن قدس الأقداس، فهذه المعابد وحسب الفكر المصرى القديم هى قطعة من السماء على الأرض. ربما امكننا أن نرفع رؤوسنا لنرى اسوداد السقف، وهو ما حدث عندما تحول المعبد إلى منزل وملجأ لأقباط مصر. فما حدث وحسب رواية د. جمال حمدان كان بحثا عن عزلة جغرافية يلجأون إليها من الاضطهاد الدينى، ويحافظون فيها على عقيدتهم. هى رواية تؤيدها التنقيبات الأثرية التى كشفت كما يقول عاطف نجيب الباحث بمعهد الدراسات القبطية عن وجود بعض المبانى القبطية و أساسات كنيسة شيدت فوق أطلال مبانى العصر البطلمى، فما بالنا بالمعابد المصرية نفسها. التحضر المصرى فى معبد إدفو، تبدو كل تفاصيل التحضر المصرى ، فهناك رسوم حربية لبطليموس الثالث يقمع الأعداء بحضور حورس ، و ملامح الصراع بين حورس و ست، ورحلة حاتحور مصورة من دندرة إلى أدفو، فى احتفال مهيب تشارك فيه الموسيقى، كما يضم المعبد مقياسا للنيل و مقصورة لنوت، و غرفة لصناعة العطور من اللوتس بالقرب من قدس الأقداس. كان الملك يمهد الأرض لبناء المعبد، وكأنه تصريح بالبناء، ثم يضع الأساسات ويحدد التاريخ والمساحة، ليبدأ وضع الأحجار من أقرب منطقة من محاجر جبال السلسلة وتقدم القرابين. فهنا فى مدينتى الذهبية و الاقتحام لا يمكنك أن تنكر أو تتناسى أى من تفاصيل التاريخ الذى تعرفه الوجوه السمراء التى نقلت معالم التحضر المصرى إلى الجنوب الإفريقى، وعلمت العرب الفاتحين الاستقرار فى بر مصر والاشتغال بالزراعة. فمما يذكره التاريخ أن الخليفة العباسى المعتصم بالله كما يقول د. محمود الحويرى كان مفضلا للترك فى جيشه، فجعل العرب ينتشرون فى ريف مصر، ويندمجون مع المصريين، مما أدى إلى انتشار العروبة والاسلام فى كل وادى النيل. فالتاريخ يقول إن أول الحكاية ليس بالضرورة يدل على نهايتها، فكثير من المقدمات يأتى بنتائج غير متوقعة. وهذا ما تحكيه كوم امبو وإدفو وهما مدينتان تبدوان لراكب النيل أنهما قريبتان جدا حتى ولو قطعنا الطريق بالحنطور، وكأنهما يدعوان الناس لمعرفة تاريخهما ولو فى ساعات قليلة. ولحكايات بر مصر بقية..نستكملها بعد شهر رمضان المبارك بإذن الله تعالى.